بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 13 أبريل 1998

ان لله عبادا فطنا ( مقال )


وأعجب ما أعجب من رجل جعل قدره في التراب , ومناه في الأوشاب ,  وولعه  في  صحبة الأوقاب(3), كيف يسلم من الأوجاع والأوصاب , لاينخلع من ماله صدقة , ولاينزع من قلبانه  دلوا , يضن بالقليل , ويتدافع على الجزيل , كأنما هو موكّل أن يجمع الدنيا من أقطارها , وما علم أنها لا تسوى عند الله جناح بعوضة . انغمس بعض الناس في هذه الدنيا الفانية , فأخذت منهم هناءتهم , وأغرقتهم في التطلّعات , وقذّرتهم بالمطامع , ودارت بهم فاستداروا , وجرت بهم فتقافزوا, حيث لا خير ولا مير, دنعت (1)  نفوسهم , وطأطأت رؤوسهم , تدافعوا واندفعوا في رغباتهم , تطلّعا للإستحواذ , وشهوة للتملّك , وهم في بحبوحة من العيش لاتنذر بحاجة, إلاّ أن المطامع جعلتهم خوامع (2) , فخضعوا وتخضّعوا لمن هم أقل مكانة وقدرا وجالسوهم وقرّبوهم وخالطوهم , ليضربوا جنبات الأرض ويأتون إليهم بالكثير من الخفايا , الخفايا التي تساعدهم على الخضم والقضم والهضم .
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أُهْدِيَ إلى رجلٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة , فقال إن أخي كان أحوج مني إليه , فبعث به إليه , فلم يزل واحد يبعث به إلى آخر حتى تداوله سبعة أبيات ورجع إلى الأول.
هذه لمحة من الإيثار تجلّت في أجمل صورة, ليس ذلك وقفآ على الرعيل الأوّل من خيار الأمّة, ففي كل عصر نجد المروءة , يجسدها الفعل , وتظهرها الفعال , يقول شليويح العطاوي :        وان قلت الوزنه وربعي مشافيح  **أخلّي الوزنه لربعي واشومي ,  رجل في بريّه جرداء ودويّة (4)قــفـراء , أنهكه العطش , وأتعبه تعقّب الآل , يُؤثر ربعه بحصته من الماء , الماء النزر القليل الذي يوزن بحصاة صغيرة , لتكون مقدارآ  لرفاق الرحلة فيّ الفلوات والصحاري , يؤثر رفاقه العطشى الذين رآهم من العطش مشافيح , آثرهم بنصيبه من الماء , ورفع نفسه فارتفع قدره ,  وجاء من لايعرفه فروى بيته وترحّم عليه لأخلاقه ومروءته وشيمته... هل سمعتم عن عتبة بن غزوان الحارثي المازني الصحابي الجليل  باني مدينة البصرة وأميرها الذي كان يخاف الدنيا على دينه ,حاول معه بعض أتباعه أن يحوّلوه عن نهجه الزاهد المتقشف , فقال لهم : إني أعوذ بالله أن أكون في دنياكم عظيما, وعند الله صغيرا , وقف عتبة موقف الشجاعة مع نفسه , فلم تأخذه الدنيا في حضنها , وقف يحارب مظاهر الترف وخداع المظاهر, حتى ضجره(5) الذين تستهويهم الرغبات , وتغريهم الشهوات , فوقف فيهم خطيبآ وقال : والله لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سبعة , ومالنا طعام إلا ورق الشجر , حتى تقرحت أشداقنا.
يقول عمير بن سعد رضي الله عنه , ألا إن الإسلام حائط منيع , وباب وثيق , فحائط الإسلام العدل , وبابه الحق , فإذا نقض الحائط , وحطم الباب أستُـفْـتح الإسلام , ولايزال الإسلام منيعا ما اشتد السلطان , وليست شدة السلطان قتلآ بالسيف ,  ولاضربآ بالسوط , ولكن قضاء بالحق وأخذ بالعدل... تلك سيرة الصالحين قضاء بالحق , وأخذ بالعدل , العدل سيرة وسلوكا ومنهجا.
كان أبو عبيد بن مسعود بن معتّب الثقفي على رأس الجيش الذي غزا فارس , ولما جيئ له بأنواع الطعام والأخبصة(6) وغيرها فقال : هل أكرمتم الجند بمثلها ؟ قالوا لم يتيسر ونحن فاعلون , فقال أبو عبيد لاحاجة لنا في طعامكم , بئس المرء أبو عبيد أن صحب قوما من بلادهم واستأثر عليهم بشيئ لا والله لاآكل ما أتيتم به ولا مما أفاء الله إلاّ مثل ما يأكل أوساطهم ... هذه هي أخلاق المسلمين, يؤثِـرون ولا يسْتأثرون, ويترفّـعون عن سقطات الدنيا... رأى الأحنف بن قيس في يد رجلٍ درهما فقال : لمن هذا ؟  قال : لي , قال : ليس هو لك حتى تخرجه في أجر أو اكتساب شكر... تلك هي حقيقة  المال , إما اكتساب الأجر, أو اكتساب الشكر, أو اكتساب الوزر, أو إمساكٌ يُخضع المالك فيصبح مملوكا , ويجعله عبدآ للدرهم والدينار, قال النبي صلى الله عليه وسلم لقيس بن عاصم : إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت ،  ومالبست فأبليت , وما أعطيت فأمضيت , وما سوى ذلك فللوارث,,, إن في الامساك ذلآ ما بعده ذل .
تعالى الله يا سلم بن عمروٍ    **    أذل الحرص أعناق الرجالِ .. ونعم المال الصالح في يد الرجل الصالح , يجمعه من مظان الخير.
أوصى أعرابي بنيه فقال: يابني أطلبوا هذا المال أجمل الطلب , واصرفوه في أحسن مذهب , صلوا به الأرحام , واصطنعوا به الأقوام , واجعلوه جُنة لأعراضكم , تحسن في الناس قالتكم , فإن جمعه كمال الأدب , وبذله كمال المروءة , حتى أنه ليسوّد غير السيّد , ويقوّى غير الأيّد ,  حتى أنه ليكون في أنفس الناس نبيها , وفي أعينهم مهيبا , ومن جمع مالآ ولم يصن عرضآ , ولم يعط سائلآ  ، بحث الناس في أصله , فإن كان مدخولآ هتكوه , وإن كان صحيحآ نسبوه إما لعرض دنيّة, وإما إلى عرق لئيم  حتى يهجّـنوه , يقول الله عز وجل : خذ من أموالهم صدقة تزكّيهم وتطهّرهم , وصلّ عليهم إن صلاتك سكن لهم , ماذا كانت الإستجابة , أخرجوا كرائم أموالهم صدقة لوجه الله . أأحدثكم عن أباعر جاءت تتهادَى بأحمالها من الأرزاق والأمتعة , دخلت مدينة رسول الله , وتسابق التجار للشراء , ورأى صاحبها (عثمان بن عفان رضي الله عنه ) أن الناس في حاجة ,  فقال للتجار: أليست الحسنة بعشر أمثالها ؟ قالوا: بلى,قال: قد وهبتها لله , وفرّقها بين الفقراء والمحتاجين, وباع عبد الرحمن بن عوف الزهري رضي الله عنه أرضا بأربعين ألف دينار , ثم فرّق المال جميعآ في بني زهرة وفقراء المسلمين, وعند موته أوصى بخمسين ألف دينار في سبيل الله, وأوصى لكل من بقي ممن شهد بدرآ أربعمئة دينار, حتى أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أخذ نصيبه من الوصية رغم ثرائه , وقال إن مال عبد الرحمن حلال صفو, وإن الطعمة منه عافية وبركة , هكذا كان سيدنا عثمان بن عفان , وهكذا كان سيدنا عبد الرحمن بن عوف , لم تستعبدهما الأموال ... كان يقال : أهل المدينة شركاء لابن عوف في ماله , ثلث يقرضهم , وثلث يقضي عنهم دينهم , وثلث يصلهم... احتمع بعض أصحابه عنده يومآ على طعام , فلما وضع الطعام بكى عبد الرحمن بن عوف , فقال أصحابه ما يبكيك ياأبا محمد ؟ قال : لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وما شبع هو وأهل بيته من خبز الشعير, وما أرانا أخِّرنا لما هو خير لنا .. رحمك الله أبا محمد ماذا نقول نحن وبم نعتذر؟.. هذا هو الأسلام الحق , رفع عبد الرحمن بن عوف فوق مغريات الثّـراء, وعـجـب الإثْـراء, وصـلـف الأثْـرياء.
وكان الحسن بن على اذا أتاه سائل رحّب به وقال : مرحبآ بمن يحمل زادي إلى الآخرة , أما نحن فنحكم الرتاج(7) خشية من السائل وابن السبيل والمنقطع . روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلآ قدم عليه من الشام , فسأله عن أرضهم , فأخبره عن سعه أرضهم وكثرة النعيم فيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تفعلون ؟ قال: إنا نتخذ ألوانا من الطعام ونأكلها , قال : ثم تصير إلى ماذا ؟ قال: إلى ما تعلم يا رسول الله ( يعني تصير بولآ وغائطا) قال النبي صلى الله عليه وسلم : فكذلك مثل الدنيا ... هذه هي الدنيا التي تكالبنا عليها , وتناحرنا من أجلها, حرمنا اليتيم , وظلمنا الضعيف, وأكلنا بغير المعروف , ألا بئس الزاد للمعاد العدوان على العباد.. هل سمعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : انقضَى عهد النوم يا خديجة.. أأحدثكم بذلك!! كانت مكه تغطُّ في سبات عميق , لاتسمع نأمة  ولاحسا , القوم في مضاجعهم إلا واحدآ تجافَى جنبه عن المضجع فعمد إلى مصلاه, يناجي ربه يدعوه ويتضرع إليه , أشفقت عليه زوجه, ودعته أن يرفق بنفسه , ويأخذ حظه من النوم , فأجابها والدموع في عينيه : ( لقد أنقضَى عهد النوم       يا خديجة) اللهم صلي وسلم وبارك عليه. أيها النائمون هـبوا فقد انقضى عهد النوم... بكى معاذ بن جبل رضي الله عنه بكاءً شديدآ فقيل له ما يبكيك ؟  فقال :لأن الله عز وجل قبض قبضتين , فجعل واحدة في الجنة والأخرى في النار ,  فأنا لاأدري من أي الفرقين أكون , وقالت ابنة عامر بن عبد قيس ياأبتي مالي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام , قال يا بنية إن جهنم لاتدع أباك ينام, ورأت أم الربيع بن خيثم قلق ابنها بالليل فقالت يا بني لعلك قتلت قتيلآ ,  فقال : يا أماه قتلت نفسي.. اللهم ارحمنا برحمتك, وتجاوز عن تقصيرنا يا أرحم الراحمين.

ياباكيا فرقة الأحباب عن شحطٍ        هلاّ بكيت فراق الروح للبـــــــــــدنِ
نــــــــــــورٌ تردّد في طينٍ الى أجلٍ        فانحاز علوآ وخلّى الطين للكفنِ
يا شدّ ما افترقا من بعد ما اعتلقا        أظنّها هُدنة كانت على دخــــنِ
إن لم يكن في رضا الله اجتماعهما    فيا لها صفقة تــــــمّت على غـبـنِ.
--------------------------------------------
الهامش
 (1)دنعت   : ذلت
(2)الخوامع   :الضباع
(3)الأوقاب  :الحمقى
(4)الدوية    :المفازة
(5)ضجره  :اي ضجر منه
(6)الأخبصة: جمع الخبيصة وهي نوع من انواع من الطعام
(7)الرتاج  : ما يغلق به الأبواب من الداخل

نشرت في جريدة عكاظ العدد 11569 , السبت 28/12/1418هـ

السبت، 11 أبريل 1998

دولة العز والهدى والفلاح (مقال)

لبّيك اللهم لبّيك ، لبّيك لا شريك لك لبّيك  ، بهذا النداء العظيم لبّى الملبّون، وقفوا على صعيد عرفات، يتضرّعون إلى رب العزّة والجلال، تاركين المال والأهل والولد، وقفة الضّراعة الذّليلة أمام الصمديّة العزيزة، وقفة الخضوع والاستكانة أمام  رب  العزّة والرحمة. وقف الحجاج في مشهد إيماني مهيب ليعلنوا كلمة الله الخالدة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وسالت جموعهم إلى المزدلفة في ابتهال وذلّة وخشوع، يتضرّعون إلى الواحد الأحد الفرد الصّمد، مُتجردين من الأهواء، متحدين في التوجّه، مُخلصين في العبادة، لا يصرفهم عن تجرّدهم غاية دنيوية، ولا يعوقهم في توجّههم رغبات حياتية، ثم سارت جموعهم إلى منى فالبيت الحرام ، تحفّهم عناية الله ، في يسر وسهولة وراحة وطمأنينة، برعاية واعية وتخطيط سليم، وخُطط مدروسة، وآمن شامل تحقّق بفضل الله ومنّه وجوده وكرمه.
أكمل الحجاج بتوفيق الله مناسكهم، وقضوا بحمد الله تَفَثَهم، وشهدوا - برعاية الله - منافعهم ، وذكروا الله في الأيام المعلومات، وتوسّلوا إلى الله العلي القدير، أن يجعل حجّهم مبرورا، وسعيهم متقبّلا مشكورا.
كان الحج، والحمدلله، غاية في التنظيم، ورائعا في التخطيط، ودقيقا في التّطبيق، وسهرت الدولة، رعاها الله، على تيسير الحج وأداء النسك، بذلت في ذلك النفيس وأرخصت كل غالٍ في تيسير السّبل، وتهيئة الطّرق، وترتيب السكن، وتوفير جميع الخدمات، جعلت خدمة الحجيج هدفا من اهدافها، وغاية من غاياتها، أمٌنت الطرق، وسهرت بإخلاص على خدمة وفود بيت الله الحرام، كأفضل مايكون وأحسن مايكون، وضعت الخطط، واستنفرت كلَّ اجهزتها لهذه الغاية النبيلة، بذلت بلايين البلايين لحفر الأنفاق، وشيدت الجسور، وبنت الطرق الواسعة الفسيحة، كل ذلك ليسْهُل تنقّل الحجاج بين  مناطق الحج والمشاعر، لا يعوقهم عائق، ولا يحبسهم حابس، ولا يُعطّل حركتهم ازدحام، فعلت ذلك وتفعل غيره من تحسين وتطوير دون  منٍّ ، تعمل ذلك بصمت واستشعارا بواجبها المقدس، والشاهد على ذلك ما قامت به وزارة الأشغال العامة والإسكان من إنشاء مشروع إسكان الحاج في منى، والذي نُفِّذت المرحلة الأولى منه بما يسع لأكثر من خمسمئة ألف حاج.
 وعندما ينتهي الحج، تبدأ اللجان المتعددة في تقييم العمل، ومراجعة التقارير، لتتلافى القصور - إن كان هناك قصور -  في المواسم القادمة.. وترى الدولة بجميع اجهزتها في عمل دؤوب مستمر طيلة السنة، مراجعة ودراسة ورأيا للعمل من أجل الحج القادم، فكرا وتخطيطا وتحسينا وبذلا.
ولقد تحقق على يد الدولة الرشيدة قول الحق سبحانه وتعالى {وإذْ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا} توخّت بذلك وجه الله ، وابتغت بذلك مرضاة الله، فكان نتاج عملها الخير المطلق، والعظمة المطلقة، فوفقها الله عز وجل في مساعيها، لأنها توسّلت بأعمالها وجه المُهيمن الجبّار، وجعلت إخلاصها في ذلك تقرّباً الى الله.
رعى الله دولتنا الفتيّة الأبيّة، التي تجردت أعمالها الخيّرة من كل عرض وغرض، فكان غايتها أن تكون كلمة الله هي العليا، وألّا يرفع شعار غير التلبية( لبّيك اللهم لبّيك) وألّا يُثار نداء إلا التكبير: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد، وهي -أي الدولة رعاها الله- تدرك أن الحج لا يستقيم إلّا بنبذ الأهواء، حتى يتفرغ الحجاج إلى الوقوف والدعاء بإخلاص لله الواحد الأحد الفرد الصمد:
 إلهي لا تعذّبني فإنّي          **     مقرٌّ بالذي قد كان منّي
فمالي حيلة إلّا رجائي         **     بعفوك إن عفوتَ وحسن ظنّي
وكم من زلّةٍ لي في الخطايا   **    صَفَحْتَ وأنت ذو فضلٍ ومنٍّ
إذا فكّرت في ندمي عليها      **   عضضْتُ أناملي وقرعتُ سنّي
أهيم بزهرة الدنيا جنونا        **   وأقطع طول عمري بالتمنّي
ولو أنّي صدقت الزّهد عنها    **   قلبت لأجلها ظهر المجنّ
يظنّ الناس بي خيرا وإنّي      **   لشرّ الناس إن لم تعف عنّي
إنها -والحق يُقال- استقامة ضمير يدعو إلى نقاء البواعث، وإخلاص النية، والتوجه إلى العزيز الحكيم بالدعاء والعبادة، دونما خلط أو تخليط، وبهذا تقف الدولة بحزم وقوة حائلاً دون أولئك الذين يرصدون رياح المنافع والأهواء، ليحصدوا من ذلك الموقف العظيم  نقاط  امتياز :
إن الدولة، وفقها الله، بعلمها وجهدها وإخلاصها وبذْلها أرادت أن تكون كل خطوة يخطوها الحاج، بل وكل خلجة من خلجات نفسه موصولة بالله العلي القدير، فهم، أي الحُجاج، جاؤوا من كل فجٍّ عميق، ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات.
رعى الله دولتنا التي امتدَّ خيرها للناس كافة، أفاضت بالنّعم فوصلت جنبات الأرض على ابتعاد أقطارها، ورغم مواقف النكران ، إلا أنّها أغضت حياءً، وترفّعت كرماً، وواصلت عطاءها وهي  ذات قدرة واقتدار ، لم تُعاتبْ ولها الحق أن تُعاتب، ولها في مواطن القول إن شاءت مساحة كبيرة، وآثرت أن يكون لها في مواطن الفعل المساحة الكبيرة. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
أمّا وقد أتم الحُجاج -والحمدلله- حجّهم وأدوا مناسكهم فاسمحوا لي أن أقول : يا أهل الشام شامكم، ويا أهل اليمن يمنكم، أقولها وأنا المواطن، قبل أن تقولها الجهة المختصة، أقولها وأرجو أن يقولها كل مواطن مخلص قولاً وعملاً، فلا نُتيح العمل لغير من صُرِّح له بذلك، ولا نُوفِّر المأوى لمن يخالف أنظمتنا، ولا نُتيح العيش بيننا للمتخلّف والمُخالف، والمواطن يجب أن يكون عونا وعينا: عونا في عدم تشغيل الأجانب المُخالفين، وعينا في إبلاغ الجهات المختصة عمّا يعلم ويعرف، فالدولة، أي دولة، أملها تضافر المواطنين الذين تسهر على رعايتهم وتحقيق مصالحهم، وتوفير سبل العيش الكريم لهم.
وفق الله  حكومة خادم الحرمين الشريفين في أعمالها الخيّرة، وجعلها موئلا وملاذا.. آمين آمين..
من عذب الكلام للشاعر أحمد شوقي:
لك الدين يارب الحجيج جمعتهم      **      لبيتٍ طهور الساح والعرصات
أرى أصنافاومن كل بقعةٍ              **      إليك انتهوا من غربةٍ وشتات
تساووا فلا الأنساب فيها تفاوت      **     لديك ولا الأقدار مختلفات
ويارب هل تغني عن العبد حجةٌ      **     وفي العمر ما فيه من الهفوات
نشرت في جريدة عكاظ   العدد ١١٥٥٥ السبت 14/12/1418 هـ

الأحد، 29 مارس 1998

خود تزف الى ضرير مقعد(مقال)


الحياة أصبحت سريعة النبضات، مجهولة القسمات، لا يدرك منها الناهل إلا وشلا، ولا يصيب الوالغ إلا قليلا، أغرت الناس فاستزادوا منها، ودارت بهم فاستداروا، وجرت بهم فأسرعوا،.... دخلوا دوّامتها، ولم يخرجوا من ربقتها، استعبدتهم فارتضوا، واستخفّتهم فأطاعوا، مشوا مع تيارها، ورقصوا على إيقاعها ، جرَّدتهم من كثير يحمد لهم ويحمد فيهم، كان الناس - يوم كان الناس - صلة واتصالاً ، كان فيهم وشائج القربى وسوانح المعروف، كان فيهم التراحم والرحمة، كان فيهم الزيارة والتعهّد ، لم يبق من ذلك إلا آثار لا تبين، وذُبالة لا تُضيء.. حتى في أعيادنا الإسلامية والتي من الواجب شرعاً وعرفاً أن نصل ونتواصل فيها، نصل الرحم، ونتواصل بالمعروف، وأدْنا فرحتنا، وأقفلنا منازلنا، وبدأنا نعوّد ناشئتنا على الهروب من هذه الأعياد المباركة الطيبة، ولم تعد لقاءاتنا تتم إلا في فرح قريب لا يمكن الإعتذار منه، أو ترحٍ في عزيز غال.

وفي الأعياد استبدلنا بالمعايدة الشخصية، بطاقات التهاني ، وبرقيات أثرية، وهذه قلما يطلع عليها من أرسلت له. لقد تجمّدت صلاتنا، وتجمّدت عواطفنا، وكم حدّثت نفسي وتحدّثت، أقول معاتباً لها : تدبّجين التهاني، تتخيرين الألفاظ، وتزاوجينها مع المعاني، تضيفين إليها إشراقة الصباح، ترسمين من المودّة الواناً، ومن المحبة أطيافاً، ترصِّعين بالنجوم جيدها وبالسائرات جدائلها، أملاً أن يقرأها من بُعثتْ له، ورغبة أن يطلع عليها من أرسلتْ له، ورغبة أن يستلمها من أهديت له، فتزدان بقراءته، وتحسن بجميل انطباعه، ومع الأسف قليل من يتكرم بنظرة، أما الأكثرية فانحجبوا واحتجبوا، تواروا بانشغالهم، وتذرّعوا بمشاغلهم (( إنما تُرتجَى إذا كان شُغْـلُ)).. مهامهم أكبر من إلقاء نظرة على ما يبعث لهم من تهانٍ وتمنّيات، ووقتهم لا يسمح لهم بقراءة هذه الترّهات، وليس لديهم وقت يقضونه في استقبال هذه العواطف التي عصفت بها العواصف، وهي آخر ما بقي لنا من صلة واتصال وتراحم، اللهم رد بنا خيرا.


- الرياض -

المجلة العربية - ذو الحجة - ١٤١٨ هـ

السبت، 14 مارس 1998

المقامة الضبّية ( مقال )



حدّثني طامر بن أبي طامر وهو من الثّقاة الأكارم قال : خرجت إلى البرّيّة في يوم من الأيام أثناء فصل الربّيع ، والبَرُّ مبتغَى للجميع، وغير بعيد عنّي تحزّب جماعة من الفتْيان ، لهم هيئة الفرسان في يوم الطّعان، وهم يعدّون جراكل الماء ويُقرِّبون الدّلاء، وبعد قليل علاالصّياح واشْتدّ الكفاح، وإذا الفتية قد تجمّعوا قرب الجحور وجعلوها تموج مثل البحور بعد أن أغرقوها بالماء صباً من الدلاء، ومنهم من وجّه عوادم السيارات بما تقذفه من غازات إلى جحور الضبّان، ومنهم من تحزّم وتعمّم، ومنهم من شمّر ولا تذمّر، فمن نابضٍ(١) يبري النّبال ومشمّرٍ مُتهيئٍ للنّضال، وفرقةٍ عند الجحور ملتئمة، وشرذمة مع الضبّان ملتحمة، فاصطادوا تسعاً وتسعين وكانوا يطمعون في المئين، فلما انتهَى العراك جلسوا الفتية إلى شيش الجراك  ، وبدأوا يتضاحكون وبصور تصرّفاتهم يتندّرون، كأنّهم فتحوا فتحاً أو رأبوا(٢) جرحا، وهم بين مستهترٍ عابث(٣) ومفسدٍ عائث(٤)، فلمّا قضَى النّهار نحْبه ونوّر الليل شُهْبه، قام قصّابهم يشحذ سكّينه وشمّر عن يمينه، وجيئ بالأسارَى وهم حيارَى فذبحهم واحداً واحداً قائماً وقاعداً، وكل ضبٍّ يتّقي الذّبح بيديه ومن الخوف يُسحِّب رجْليه، ولكن القصّاب لم يرحمهم وابتسم بعدما جنْدلهم، وأُعِدّت القدور ومُلئت بالماء لتفور، وكأنّهم " أي الفتية" لايجدون بُلْغة(٥) ولا يمتلكون مُضْغة(٦)، فانتحَى طامر في ناحية مُبْتعداً عن الزّبانية، فسمع صوتاً آتياً من بعيد كأنه صليل الحديد، فاقترب قليلاً ليُشفى غليلاً، فرأى مجموعة من الضبّان تنادوا إلى اجتماع للمداولة وتبادل الرّأي والاستماع، فقام خطيبهم وقال : يا آل الضبّان يا أبكار الزّمان وفرائد الأزمان، أرأيتم ما حلّ بساحتنا وما وقع على جماعتنا ؟ فلا بيت إلّا ومنه مأسور، والبكاء لا يُذهب مافي الصدور، فدعونا نتداول المشورة، ونقلّب الرأي صورة بعد صورة، لنخرج برأي مكين نتّقي به - بإذن الله - عبث العابثين وتجنِّي العائثين، وقبل كل شيء دعونا نستفتح بالدّعاء ونبتهل إلى العزيز الكريم ونَعُذْ بإسمه العظيم من جَوْرِ المجاورين ومجارة الجائرين ومعاداة العادين وعدوان المعادين ،  فارتجّ السهل ورّجّع الجبل بالتأمين آمين آمين يارب العالمين، ثم قال خطيبهم بعد أن سالت عَبْرته وأغرقتْ سَبْلته(٧) : إن الكثير من بني الإنسان استمرأوا العدوان على بني الضبّان، والله قد أنعم عليهم فتكاثر الخير لديهم  ، من لحوم وأجبان وأطعمه مختلفة الأشكال والألوان ،  تُجبَى إليهم من جميع البلدان في كل آن وأوان، ورغم هذه النّعم العظيمة والآلاء(٨) الجسيمة إلا أنهم بصيد الضبّان مغرمون ،  وبمطاردتهم مولعون، وحول جحورهم يتحلّقون ولأكل الضبّان يتجمّعون، ألا يحمدون الله؟ ألا يشكرون الإله؟ هل ضاقت عليهم العيشة؟ وصعب عليهم العيش والمعيشة؟.
يابني الإنسان ياصفوة العرب ونقوة العربان أُحذِّركم عواقب الطّغيان، وأُذكِّركم بحق الجار الذي أوصَى به النبي المختار صلى الله عليه وسلم وعلى صحبه الأبرار ماتعاقب الليل والنهار، ألستم خير أُمّة أُخْرجت للناس؟ تعوّذّوا بالله من شر الوسواس الخنّاس قبل أن يقع الفأس بالرأس، ألا تكفيكم الخرفان والجذعان من الضأن ولذيذ لحم الطيور والقعدان؟ بدلاً من الإمعان في ذبح الضبّان، كفّوا عن العدوان يابني الإنسان فالضبّان يتظلّمون وبشكواهم يجأرون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ، ثم تحدّرتْ عبراته وعلتْ زفراته : فقام من مقدّمة الصّفوف حكيمهم المعروف وقال: وُقيت من خطيب ضيراً وجُزيت خيراً، لقد صدَقَتْ لهْجتك ووضَحَتْ حُجّتك، وبئْس الزّاد للمعاد العدوان على العباد، وعلم الله لقد خبطنا الظّلماء  ، وركبنا العشواء، واكتحلنا السّهاد  ، وانزوينا من الأنجاد في الأغوار والوهاد، والرّأي أن نقول لبني الإنسان هؤلاء : تعالوا إلى كلمة سواء، ونوقّع عهداً ونُمضي تعهّدا، ألا يعتدوا فإذا أضحَى التّراب يابساً(٩) والمرعَى عابساً(١٠) ومسّتهم اللأْواء(١١) وبلغت القلوب اللُّهاء، ولم يبقَ لهم سارحة ولا رائحة ولا يمتلكون ثاغية ولا راغية ،  فلهم الرُّخصة أن يصطادوا من الضبّان مايرجون ،  دون إسراف أو إنجراف. ثم قام شاعر الجماعة وقال : أنا ابن جلا واضع العمامة ورافع العلامة، ألاترون أن العدل أقْوَى جيش والأمن أهنأ عيش؟ والحق يلزمه شدّة ولا يتأتَّى إلا بجذّة بعد جَذّة(١٢) وماأُخذ بالقوّة لا يستعاد إلا بالقوّة ثم رفع رأسه وأنشد :
تراءَتْ لنا بنت الضّباب عشيّة     **      تُرجّل شعراً كالمثانَيَ فاحما(١٣)
فقلت لها  : بنت الضّباب أسرتني  **     فقالت : عليك اللّوم لاتكُ لائما
ألم تُرسل العينين ترْدادُ نَجْعةً ؟     **    وتأمل أن تأوي سليماً وسالما
فقلت لها لاتظلميني ضبيبّة         **    كفانا بني الإنسان ظُلماً وظالما
هموا ذبحوا قومي بدون رويّة       **    همو روّعونا فاجتزعنا المخارما(١٤)
فيا قوم هبّوا هبّة ضبيبة            **    ونجعلْ بني الإنسان ينكت(١٥) واجما
فلا يستقيم الحق إلا بضربةٍ         **    تُعيد لنا حقاً وتُخزي مراغما
وإني قمينٌ إن فعلتم لصرتمو        **    مهابين لا تخشَوْن ضيماً وضائما
فارتاحت النفوس وتقاربت الرؤوس  ، وقال بعضهم : لا تحقرنّ صغير الفساد فيأخذ في الاستئساد، وبينما هم في جدال كما هي مجالس الرجال، أقبل من بعيد ضبُّ على ذلول أزب(١٦)، فاشرأبت إليه الأنظار وتعلّقت به الأبصار، ثم نزل في حركة خفيفة وأقبل في هيئته النظيفة، فقام له الجمع وحيّوه وبالخير والرأي السّديد ذكروه ، فلماّ تربّع وسط الحلقة تمثّل بقول الشاعر :
"إن الغريب طويل الذيل ممتَهَنٌ      **     فكيف حال غريب ماله قوت"
"وطالما أُصلي الياقوت جمر غضا    **    ثم انطفَى الجمر والياقوت ياقوت"
فردّد الجميع من بعده "قوت" ،  فاستأنف الحديث وقال : كيف ياقوم تجتمعون وعنّي ترغبون، ألست زعيمكم وحامي بعد الله حريمكم ؟ فنكّس الجميع رؤوسهم ،  فقال : لا تثريب عليكم يغفر الله لكم ، ثم استمع إلى خلاصة مرئياتهم وأصْغَى إلى حيثياتهم، فلما أنهوا حديثهم قال : لاشك أن الحق يلزمه قوّة والسلام لا يضمنه إلا هيئة مرْجّوة، ولقد جهل علينا القوم وفتكوا بنا يوماً بعد يوم  ، فلا أقل من تعليم الجاهل ومجازاة المتجاهل ، ونحن جماعة الضبّان نرغب وإيم والله في التعايش مع بني الإنسان  ، بحيث لا نخاف بائقته(١٧) ولا نخشى غائلته(١٨) ، والضبّان كما تعلمون أُمّة من الأمم  ، تتقيّد بأعراف هيئة الأمم، وأنتم على ثقة أن( كوفي عنان) لا يُشجّع على أكل الضبّان ، وكانت مساعيه في العراق باتعة ، تدل على أنه باقعة ، والرأي أن نرسل إليه برقيّة ، فقالوا : ياشيخنا أنت سبّاق غايات وصاحب آيات ، فأملَى البرقية على الرّبع وضمّنها كافات الشتاء السّبْع، ثم أردف قائلاً : لا يَطْمع في الحيف شريف  ، ولا ييأس من العدل ضعيف ، ونحن أُمّة الضبّان بين جناح مهيضٍ  ، وقلب مريضٍ ، نتعشّم أن تميل إلينا بطـرفـك وتتولّانا بعـطـفـك ، ولكل وقت أجـل ، ولكـل أمر رجـل ، وأنت رجـل المهمّات ، أنهـيت الأزمات ، ورأبْـت ثـأي(١٩) العشيرة ، وسحبت من تحت الأقدام الحصيرة ، قبل الضربة القاضية ، والنزعة الباغية ، وأدخلت المفتّشيين القصور ، بعد أن جُوبهوا بالنّفور ، ونادوا بالويل والثّبور، والرأي أن تكتب عهداً لا يُنقَضْ ، ووثيقة من الطرفين لا تُرفَضْ ، تحميها هيئة الأمم من الخَفْر واللّمَمْ ، ثم ختم البرقية بختمه ووسمها بوسمه ، وقام مودّعاً الحضور بوجه مسرور زالت منه حرارة الإرتماض ودلائل الإمتعاض ، وسلك الثنيّة  ، متجهاًإلى الحويّة، ومن ثَمَّ إلى عُكاظ ليجمع الصم المعجرفة الغلاظ ، فإن حل الوئام وساد السلام فذلك مايتمنّوه  ، والّا ركبوا الأهوال ونبّلوا النّبال ،  فعسى أن يُتدارك الأمر قبل أن يستفحل ، بعهود محقّقة ، ومواثيق مصدّقة ،  والأمل في الله فهو نعم المولى ونعم النصير.
-----------------------------
الهامش
(١)نابض : نبض القوس أي جذب وترها لترن.
(٢)رأب : أصلح، عالج.
(٣)عابث : لاعب ، والعبث مالافائدة منه.
(٤)عائث: مفسد.
(٥)بُلغة : ما يتبلّغ به الإنسان من الطعام.
(٦)مُضغة : مايضعه الإنسان من الطعام في فمه ويلوكه ويمضغه.
(٧)سبلته : لحيته.
(٨)الالاء : النعم.
(٩)أضحى التراب يابساً : كناية عن الجدب.
(١٠)المرعى عابساً : كناية عن الجدب.
(١١)اللأواء : ضيق المعيشة.
(١٢)جذّة : الجذ القطع المستأصل وقيل الكسر.
(١٣)فاحماً : أسود.
(١٤)اجتزعنا المخارما : سلكنا الجبال.
(١٥)ينكت : يطرق برأسه.
(١٦)أزب : كثير الشَّعَر.
(١٧)البائقة : الشر أو الداهية.
(١٨)غائلته : شرّه.
(١٩)رأب ثأي العشيرة : رتق الخرم والضعف فيها ، أصلح الفاسد من أمورها.

نشرت بجريدة عكاظ السبت ١٤١٨/١١/١٦ هـ.

السبت، 29 نوفمبر 1997

لاتعذل المشتاق في اشواقه (مقال )



تأقلم الفتى مع الطائف معيشة ومجتمعا , بعد أن اكتسب لهجة أهله , وتكيّف مع حياتهم وطريقة معيشتهم , وزالت الوحشة التي كانت تغشاه في ليله ونهاره، ألف الطائف طرقا وسوقا, ومدرسة وبساتين, كان الطائف آنذاك مدينة صغيرة تقبع داخل سورها الذي يحيط بها إحاطة السوار بالمعصم , ترقد بعد العشاء(بكسر العين) وتصحو مع إسفار الصباح وخارج السور تنتثر البساتين الزاهية بخضرتها , خضرة تمتد حتى الأفق , وأشجار مليئة بالثمار, وقلوب مليئة بالطيبة والمحبة والوداعة ,كما ألف الفتى رفاقه في المدرسة , ولم تعد بينهم ترات ومشاحنات , ولم يأت ذلك إلا بعد جهد  وصبر منه واصطبار على أذيتهم وتعليقاتهم وسخريتهم وملل منهم على تكرار أفعالهم , أصبح الفتى يشارك زملاءه لعبهم ، أنس بصحبتهم, وهم كذلك أنسوا بصحبته, وهاهم اليوم ومنهم من جلّله الشيب, ومنهم من يتوكأ على عصاه , ومنهم من يحجل في مشيته (مشي السحابة لاريث ولا عجل 9 لايزالون في صلة واتصال وإن بعدت بهم المنازل .
بدأالفتى يتعوّد على الحياة في ذلك المجتمع الذي كان غريبآ فيه وغريبآ عنه ، وبدأ يألف طباعه ويكتسبها , ومع تعوّده واعتياده بدأت حدة الشوق تخفت , وحرقة التشوّق تبرد, وتباعدت هواجس الذكرى والتذكّر. والنسيان نعمة من الله, وعطيّة من عطاياه سبحانه وتعالى ,, وإن كانت لذعة الحنين لازالت تعاوده بين وقت وآخر, ولازال هناك بقية من الحزن تكمن في الزاوية تظهر عند كل موقف عاطفي أومشهد حزين و لم يعد الفتى يحزن لنفسه فقط , بل ويحزن لغيره , هذه المشاركة فرضتها الظروف عليه, الظروف التي دهمته وداهمته وهو بعد طريّ العود ،  فأثّرت في نفسه أيما تأثير ,وتغلغلت في حشاه , واندسّت في شغافه, لايملك لها دفعآ, ولا منها فكاكا, وقبيل أن يألف , وقبل أن يتكيّف كان على الصغير أن يزور جدّته (عوّاضة السعدية), وأن يسلّمها مظروفا من والده به ماتيسّر , وكانت جدّته تسكن في الخلاوي , والخلاوي غرف صغيرة متواضعة أعِدّتْ للفقراء والمعوزين , ممن لاأهل لهم ولاسكن ولا مأوي ولا مكان , بناها لهم أحد المحسنين , في دور أرضي واحد , وأمام كل غرفة مساحة صغيرة كأنما هي صالة في جانبها دورة مياه, وفي الجانب الآخر يقبع زير الماء, وليس للغرف أبواب تفتح وتقفل, وإن استعاضوا عنها بستارة من الخيش تغطّي مدخل كل غرفة  وتسترمدخل دورة المياه . 
جاء الفتى إلى الخلاوي, يسال عن جدته ليزورها , وعندما دخل إلى الممر,نادى جدّته,فأطلت امرأة عجوز, وأشارت إلى غرفة في نهاية الممر. وهناك وجد جدّته (عوّاضه) التي لم يسبق له رؤيتها من قبل. دخل الصغير إلى الغرفة بعد أن ناداها, ورأى الصغير إمرأة عجوزآ تغضّن وجهها, كفيفة البصر, تجلس على فرشة بالية, وكلُّ ما حولها ينبئ عن الفقر والفاقة,قالت العجوز من أنت؟ قال لها أنا فلان,شهقت العجوز, واحتضنته وقبّـلته بحرارة,وبدأت الجدّة تبكي, والصغير معها يبكي, ذكّرها بوحيدتها التي أمضّها الحزن عليها ، فأسبلت عبراتها في بكاء حار,ونشيج مؤلم,تحتضن  الصغير وتقبّـله وتشمّه,كأنما تنشد ريح أمه, وأين منها ريح أمه!! وبكى الصغير مع جدّته نكأت ببكائها جراحه,وأسالت بنشيجها عبراته, وذكّرته-عفا الله عنها- بماضٍ هنيئ مع أهله, وواقع أليم مؤلم مرير يعيشه, واقع يشتكي فيه غربة روحه وغربة نفسه وغربة مجتمعه, وبعد أن أفاءت جدّته إلى نفسها , وأفاء الفتى إلى نفسه كفكفا العبرات, وسلمها ما أرسله والده معه, وبدأ الصغير يسأل وجدّته تجيبه, عرف منها أنها أي الجدّة كانت تسكن مع ابنتها (أمه) قبل أن تنتقل إلى الظفير مع زوجها (والده) وعرف أن زوجها (جدّه لأمه) صويلح السعدي توفي عنها (عن جدّته) ولم يكن لها أحد سوى ابنتها صالحة (أمه) وهاهي ابنتها تغادر الدنيا الفانية إلى دنيا خالدة في رحمة الله إن شاء الله, وعرف الصغير أن والده رضع في بني سعد وتربَّى وكبر عندهم وتزوّج منهم ، كل ذلك عرفه الصغير من جدّته إثر الزيارة  لجدّته التي غمرته بعطفها وحنانها ومحبتها .
استأذن الفتى من جدته وخرج ,لكنه لم يقطع زيارتها . كان يزورها بين وقت وحين, ولاحظ أن جدّته (تخطّ) والخطّ هو رمي الودع والنظر فيه لقراءة الطالع والبخت,وسألها الصغير : ويش هذا يا جدّة ؟ فأجابته : أخط يا وليدي, فأعاد السؤال ويش تخطّين ؟ قالت يا وليدي اتسلّى, وراقبها وهي تخط, ترمي الودع  ثم تلمسه بيدها وتتحسّس مواقع كل قطعة,ولم يكن الصغير يعرف شيئا آنذاك عن الطالع وقراءة البخت. كان أهم شي عنده آنذاك أن هذه الجدّة حنون عطوف,تفرح بزيارته لها ,وتحدّثه وتقصّ عليه قصصا مسلّية,فاصبح يتعهّد هذه الجدّة,يأتي اليها ليقضي طلباتها المتواضعة، ويسعد بالجلوس اليها وسماع حديثها , وتجرّأ مرّة وسألها : ليش عيونك بيض يا جدّة؟ قالت: عميت ياوليدي. ثم سألها كيف عميت؟ قالت: الجدري –الله يجيرك يا وليدي- أكل عيوني , وتخوّف الصغير أن يسألها بعد ذلك كيف استطاع الجدري أن يأكل عينيها, على أنه تلك الليلة حرص قبل نومه أن يضع كفيه على عينيه حماية لها حتى لا يأكلها الجدري ,إذ كان يظن آنذاك أن الجدري حيوان ينهش العيون, حتى تبيّن له بعد وقت أن الجدري-أجاركم الله- مرض وأنه قد أصابه وخلّف آثارآ على وجهه, على أن أهمّ حدث آنذاك سعد به الصبي,كان مجيئ والده إلى الطائف على غير توقّع أو انتظار ، كان الصغير يجلس في (الصفّة) وسمع صوتآ يناديه كصوت والده, لم يصدِّق الصغير أذنيه, ولكنه اندفع إلى مصدر الصوت جريا على الدرج,وقبيل أن يصل جاءه الصوت مرة أخرى , صوت أبيه الذي يعرفه ولا ينكره.
فزاد اندفاعه  إلى حيث والده,ورمى بنفسه  عليه يقبِّـله ويبكي ,بكاءً حارآ,وينشج نشيجآ ينسحب من أعماقه, كان موقفآ مؤثِّرآ, لم يملك معه الأب إلا أن يستجيب مع صغيره,فسالت دموعه, وسمع الطفل قول من حولهم آنذاك ,لائمين ضاحكين, اذ الموقف موقف فرح وغبطة,وليس موقفا تذرف فيه الدموع, سامحكم الله,قالها الصغير في نفسه, ألا تعرفون معاناة هذا الصبي؟ ألاتدركون ماذاتعني هذه الدموع؟ إنها تترجم أشواقه واشتياقه, إنها تعبرعن لهفة لملاقاة والده وفرحة بوجوده, إنها رسالة حنين تغلغل في صدر الصبي, إنها صرخة ملام,أن تجْمَعوا على الصغير مرارة الفقد , ومرارة البعد  .وها هو ذلك الصغير في لحطته هذه وهو يسترجع ذكرياته , وقد تجاوز الستين,تترقرق دموعه,وتدركه غصّة مرّة في حلقه,رغم هذه السنين التي مرّتْ, ورغم هذا الدهر الذي مضى وانقضى, لازالت الجراح نديّة,  خدّدت وقدّدت , فاذا جاءت الفرصة , اندفعت بغصّة في الحلق ودموع تقف على الحاجر,يمنعها الحياء أن تسقط ,وهي إن سقطت لأراحت بتعبيرها عن مكنون يحترق في داخله ,ويستعر في حناياه. سامحكم الله,كيف تتركون صغيرآ يعيش غربة مُرّة أثّرت في نفسه ونفسيته,وتركت أثرآ لن يزول مهما تقادمت الأيام.
بقي والد الفتى في الطائف بضعة أيام,ثم غادر إلى الظفير وكان الوداع محزنآ, ولكنه أضاء شمعة أمل عند صغيره أنه في الإجازة الصيفية,سيذهب إلى الظفير,ليقضي إجازته عند أهله وفي مراتع طفولته,فكان يقتات بهذا الأمل ,يتعجّـل الأيام ,ويستعجل الأسابيع. حتى جاءت الإجازه الصيفية. ونترك ذلك لموعد آخر إن شاء الله. 

نشرت في جريدة عكاظ , السبت 29/ 7/ 1418هـ

السبت، 22 نوفمبر 1997

إن النساء شقائق الأقوام ( مقال )




كتبت إلي الإبنة (( أمل س )) تقول : إن اعجابي بمقالك (( أحب بني العوام طرآ لحبها )) هو الذي حثّني لأن أكتب إليك، وتقول : إني كنت مع المرأة قلباً وقالباً. رفعت من شأنها أمام بعض أدعياء الرجولة، ممن يخافون تسطير أي سطر عن المرأة. وتقول : بتنا نبحث عن الحب والحنان بعد أن فقدناه في هذا الزمن الحجري الرديء،  بتنا نخاف الزواج هرباً من الاضهاد الذي يمارسه بعض الرجال .. أقول : أشكر لك يا بنيتي حسن ظنك بي، وما قلته عن الاضطهاد، فليس إلى هذا الحد، فالناس بخير، وإن كان هناك قلة قليلة ينظرون إلي المرأة نظرة غير حضارية، فالكثرة الكاثرة مثقفون واعون، يحترمون المرأة، ويقدرون دورها، ويدركون أن إسهامها مهمٌّ جداً في بناء المجتمع وتنميته، فالأسرة وهي الخلية الأولى للمجتمع تلعب فيها المرأة دورآ كبيراً ومهماً، فهي المسؤولة عن تربية الأبناء، وتنشئتهم التنشئة الصالحة، تخلق منهم القادة والمربين والمفكرين والمسؤولين، وهي - أي المرأة - منزعُ فخر الإبن وثقة الأب، ولقد نزع النبي صلي الله عليه وسلم -وهو أفضل الخلق وسيد الرسل- بفخره إلى أمهاته في الجاهلية، فقال عليه أفضل الصلاة والسلام (( أنا ابن العواتك من سليم )) أفبعد هذا يكون لقائل مقال، إن افتخاره صلى الله عليه وسلم بأمهاته يرفع رأس المرأة الصالحة، ويقوي عزيمتها، وينير دربها، ويوضّح مسلكها، وشبيه بذلك ما قاله علي ابن ابي طالب للأشعث بن قيس عندما خطب ابنته : (( غَـرّك إبن أبي قحافة إذ أعطاك ابنته وليست من الفواطم من قريش ولا العواتك من سُليم ))<١>.
وأفيض في ذلك وأقول : إن المرأة أجارت، فاحتُـرِم جوارها إكراماً لها وإعزازا .. حدّثوا أن سُبيعة بنت عبدشمس بن عبدمناف كانت زوجاً لمسعود بن معـتّب بن مالك الثقفي، وهو سيد قومه وقائد حربهم ومَرَدّ أمرهم، فلما نشبت حرب الفجار بين كنانة وقيس، كان ابن أخيها حرب بن أمية بن عبدشمس هو قائد الجيش الكناني، وزوجها مسعود قائد الجيش القيسي، فضرب لها زوجها خباءً وراء جنده في عُكاظ ولما دخل عليها قبيل المعركة، أبصر الدموع في عينيها، فسألها ما يبكيكِ ؟ قالت : أبكي لما عسى أن يصيب قومي، فقال لها من دخل خباءك من قريش فهو آمن، فوسّعت خباءها، وأخذت توصل به قطعاً، ليسع الكثير من قومها، وبدأت المعركة واستعرَّ أوارها، وانكشفت قيس وانهزمت، فخرجت سُبيعة وصاحت في الناس من دخل خبائي فهو آمن، ومن تعلّق بطنب من أطنابه فهو آمن، فلما سمعها ابن أخيها حرب بن أمية، أمْضَى قولها وصاح يا عمة، من تمسك بأطناب خباءك فهو آمن، ومن دار حوله فهو آمن، وخرج ابناؤها عروة ونويرة والأسود وهم غلمان في قبائل قيس يأخذون بأيديهم إلى خباء أمهم، فلم يبق قيسيٌّ إلاّ اعتصم بخبائها فسُمِّيَ الموقع مدار قيس، فإن قيل مدار قيس فالفضل فيه لامرأة أجارت فأمْضِيَ قولها، وحُفظ جوارها، واحترمت جيرتها، ودفعت بابنائها ليقودوا الناس ويسودوا،  يقول الشاعر <٢>
ألم تسأل الناس عن أمرنا     **      ولم يثبت الامر كالخابرِ
غداة عكاظ إذا استكملت       **      هوازن في كفها الحاضرِ
وجاءت سُليم تهُـزُّ القنا        **     على كلِّ سَلْهَبَةٍ ضامرِ
وجئنا إليهم على المضمرات   **     بأرعن  ذي لجبٍ زاخرِ
فلما التقينا أذقناهُمو            **     طعاناً بسمر القنا العائرِ
فـفـرّتْ سُليم ولم يصبروا       **    وطارت شعاعاً بنو عامرِ
وفـرّتْ ثقيفُ إلى لاتها         **      بمنقلب الخائر الخاسرِ
وقـاتـلـت الـعِـنْـسُ شـطْـر النهار ثُم تولّـتْ مع الـصّـادرِ
على أن دهمانها حافظتْ      **     أخيراً لدى دائرة الدائرِ
هذه هي المرأة إن ذُكرتْ ذُكرتْ بخير، موقع الفَخار وطيب النَّجار، وليس في ذلك غمط للرجل أو انتقاص، بل هو الفخر كل الفخر، فالمرأة كما قلت من قبل هي الأم، هي الحليلة والحبيبة، هي الأخت، وهي الإبنة، كرامتها من كرامة الرجل، وعـزّتها من عزّه، وهذه المرأة التي تحدّثت عنها آنفاً هي أم الصحابي الجليل عِـروة بن مسعود الثقفي الذي يروَى أنه أحد المعنيين بالآية الكريمة (( لو لا نُزّل هذا القرآن على رجلٍ من القريتين عظيم ))<٣> وهو الذي حزن النبي صلى الله عليه وسلم لمقتله وقال :(( مثله كمثل صاحب ياسين في قومه )) عـروة بن مسعود الثقفي تربَّى في حضن هذه المرأة الجليلة، نشّأته نشأة صالحة، وربّته تربية مثلى، فأصبح رجلاً معدوداً بين الرجال حنكة ومعرفة ورويّة، ولهذا عهدت إليه قريش بمفاوضة النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاء عليه أفضل الصلاة والسلام مع صحبه معتمراً، ولم تكن لتعهد إليه لولا إدراكها برجاحة عقله، وطيب رأيه.
إن مكانة المرأة في نفوس الرجال لا تعدّها مكانة، وموقعها من قلوبهم لا يعْـدله موقع، بسبها تنشب حروب، انتصاراً لها وانتصافاً لحقّها، وفي حرب البسوس ما يعطي الدليل، ويوضح شيئاً من هذا القبيل، وفي حرب الفجارالثانية وقع القتال بسبب عبث شباب من قريش و كنانة بإمرأة من بني عامر، كانت المرأة جميلة وضـيـئـة وعليها برقع، فأرادوا كشف برقعها فامتنعت وصاحت يالعامر، ونادى الشباب قومهم، فتحاجز الناس بعد أن وقعت بينهم دماء، وانتهت بتوسط حرب بن أمية بن عبدشمس واحتمل دماء القوم وأرضَى بني عامر، كل ذلك من أجل كرامة المرأة ومكانتها، لأنها مثار عاطفة الرجل، تحتلُّ في حياته موقعاً كريماً، وتقوم بدور إيجابي في حربه وسلمه.
نعرف أن النساء في الحرب يقمن بدور المحرِّض والممرِّض.
وفي يوم تحلاق اللّمم بين بكر بن وائل وتغلب قامت المرأة بواجبها، فقد حملت كل امرأة من بكر بن وائل قربة من الماء وهراوة غليظة، فإن وجدت جريحاً من قومها أسعفته وسقته من قربتها، وإن وجدت جريحاً من الأعداء أجهزت عليه بهراوتها.
أأحدثكم بيوم حليمة !!  وما يوم حليمة بسر خرج المنذر بن ماء السماء ملك الحيرة، يبغي قتال الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشام الذي خرج أيضاً لملاقاته وقتاله، وفي الطريق جاء للحارث من أعلمه أن جيش المنذر، ذو عدد وعـدّة. وانه لا قبل له بملاقاته، فلما تراءَى الجمعان، اختار الحارث مئةً  من فتيانه الأشدّاء، وأمرهم أن يأتوا المنذر فيدينوا له بطاعتهم وطاعة أهل الشام، فاذا أنسوا منه الغِـرّة فتكوا به، وطافت بهم ابنته حليمة فضمّختهم بالطيب وحرّضتهم، فخرجوا وهم أشد ما يكون عزماً وحميّة، فذهبوا وقتلوا المنذر وهو بين شجعان قومه، حتى إذا سمع الحارث صيحة الظّفر من فتيانه زحف بجموعه على جيش المنذر وأوقع  بهم وسُمِّيَ ذلك اليوم :
 يوم حليمة تمجيداً للمرأة التي حرّضتهم وشجّعتهم، هذه هي المرأة العربية تذكي الحميّة ، وتقوّي العزيمة، وتؤثِّـر في الفتيان إيجاباً لمصلحة قومها وجماعتها، وليس ذلك فقط جهد المرأة ودورها، بل تعدَّى ذلك إلى أنها قادت الجحافل وساست الجماعة. حدَّثوا أن طيئاً مكثتْ دهراً تفيئَ  في غزواتها إلى امرأة منهم يقال لها رقاش، يستضيئون برأيها ويعتزّون بشجاعتها، ويرقبون النصر من خفقة سيفها وطعنة رمحها، ولم تكن الوحيدة فقد سبقتها في ذلك ملكة سبأ وحديثها في القرآن الكريم معروف، قال لها قومها: (( قالوا نحن أُلو قوةٍ وأُلوا بأسٍ شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين ))<٤> (( الأمر إليها قالوه بإجماعهم ولم يكن في ذلك ضَيْـرٌ عليهم أو منقصة، فإذا حزبهم أمر فالرأي لها تشير وتدير وتأخذ ما تراه صالحاً.. وما كان ذلك إلاّ  ثقة برأيها وحسن تدبيرها وسلامة تفكيرها.
قلت ما قلت من شواهد إنصافاً للمرأة، وأنا لا أحب أن تكون هناك مجابهة بين الذكور والإناث. فلا غناء لهذا عن تلك. ولا استغناء من هذه عن ذاك. ولقد كان الرجل يمتدح المرأة وهو مفارقها لظروف وأسباب، وهي تمتدحه وتشيد به، حدّث أبو عمرو بن العلاء قال : تزوج رجل من بني غدانه بامرأة من جعـدة، ثم وقع بين الحيين ما حمله على فراقها، فلما اعتزمت الرحيل قال لها : استمعي ويستمع من حضر، أما لقد اعتمدتك برغبة، وعاشرتك بمحبة، ولم أجد عليك زلة، ولم تدخلني لك مَلّة، ولكن القدر غالب، وليس له صارف، قالت المرأة أثنيت وأنا مثنية، فجزيت من صاحب ومصحوب خيراً، فما استربتُ خيرك ولا شكوتُ ضَيْـرك، ولا تمنّتْ نفسي غيرك، وما ازددْتُ إليك إلاّ شرهاً، ولا أحسسْتُ لك في الرجال شبهاً، ثم افترقا. هذا هو الوفاء، وفاء الرجل ووفاء المرأة .. وهذا هو التقدير كل منهما يقدّر صاحبه ويثني عليه بما هو له، قال صعصعه بن صوحان لمعاوية بن أبي سفيان، يا امير المؤمنين كيف ننسبك إلى العقل وقد غلب عليك نصف إنسان (( يعرّض بأنه يستمع لزوجته )) قال معاوية : إنهن يغلبن الكرام، ويغلبهن اللئام.. حقيقة ما يغلبهن إلا اللئيم.
--------------------------
الهامش
<١> العواتك من سليم هن . عاتكة بنت هلال بن فالج بن ذكوان ام عبد مناف بن قصي وعاتكة بنت مرة بن هلال ام هاشم بن عبدمناف وعاتكة بنت الاوقص بن مرة بن هلال ام وهب بن عبدمناف جد رسول الله صلى الله عليه وسلم لامه فالاولى عمة الثانية والثانية عمة الثالثة. 
والفواطم من قريش هن : السيدة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة بنت اسد زوج أبي طالب بن عبدالمطلب، وفاطمة بنت عبدالله بن عمر بن عمران جدة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
 <٢> الشاعر هو ضرار بن الخطاب الفهري. الاغاني جزء ٢٢ ص ٧٣.
<٣> الآية ٣١ من سورة الزخرف.
<٤> الآية ٣٣ من سورة النمل.

نشرت في جريدة عكاظ يوم السبت ١٤١٨/٧/٢٢ هـ

الاثنين، 4 أغسطس 1997

وأحلى الحديث ما كان لحناً(مقال)


تجنّى بعض المؤرخين على الحجاج بن يوسف الثقفي، فقالوا عنه :قتول غشوم قتّال عسوف، والجاحظ يعده من الذين لا يتناهون عن منكر فعلوه <١> ، والسيوطي يقول :  (( لا رحمه الله ولا عفا عنه )) 2
، والبلوي يذكر أن العلماء اتفقوا على تفسيقه واختلفوا في تكفيره<٣>، وابن خلّكان يقول : ((كان له في القتل وسفك الدماء والعقوبات غرائب لم يسمع بمثلها))<٤>، حتى الشيخ القرضاوي - عفا الله عنه - اعتبره طاغية <٥>...
ولست هنا في مجال الإنتصاف له ...
لكني أروي ما أورده ابن عساكر أن رجلاً تناول الحجاج وعابه فقال له الحكم بن هشام الثقفي : (( ابزق علي القمر)) .
كان الحجاج صاحب طاعة في منشطه ومكرهه، لا يُسوّغ لنفسه أن يناقش الخليفة أحسن أم أساء، نصح الحسن البصري فقال له : ( ياحسن إياك والسلطان أن تذكره إلا بخير فإنه ظل الله في أرضه، من نصحه اهتدى، ومن غشّه اعتدى ) <٦>.
وحسب الحجاج أنه كان واحداً من بُناة الدولة الأموية، حافظ على وحدتها السياسية، وحارب الخارجين عليها، وأسهم في صنع تاريخها وأمجادها ، والحجاج قبل هذا وذاك قارىء قرآن يتبصّره ويتدبّره ويتمثّل به ويثيب عليه، دعاه حرصه على النّص القرآني إلى إثبات الشّكل والإعجام على حروفه، وبهذا وضع لنا نحن ضوابط الكتابة العربية، وهو الذي عرّب ديوان الخراج في ولايته، وتبعته جميع الأمصار الإسلامية...
وكان غيوراً على اللغة العربية، يعيب من يلحن عنده، حتى زوجته هند بنت أسماء بن خارجة الفرازي، عاب عليها لحنها عندما لحنت. فاحتجّت بقول أخيها مالك بن أسماء :
منطقٍ صائب وتلحن أحياناً   **   وأحـلَى الحديثِ ما كان لحنا .
فقال : لها إن أخاك لم يرد ما تقولين ولكنه عنَى أنها امرأة فطنة لا تُصرّح بمرادها ولكنها تلحن به تستّراً وتوريةً وحياءً - كما قال عز وجل : { ولتعرفنّهم في لحن القول }
ولم يُرد عز وجل الخطأ في القول : دلّل الحجاج على فهمه للقرآن ومعرفته للشعر وضروب الكلام...
وكم من مرّة وقف عند آية قرآنية ذكّره بها أسير جيء به عنده لاستنطاقه وقتله، فيعفوَ عنه وعمّن معه، بل أنه عفا عن أسلم بن عبيد البكري، المطلوب قتله بأمر عبدالملك بن مروان، فلما لجأ، إليه قالت ابنته بضعة أبيات منها :
أحجاج كم تقتل به إن قتلهْ   **    ثماناً وعشراً واثنتين وأربعا
أحجاج إما أن تجود بنعمة   **    علينا وإما أن تقتّلنا معا
فبكى الحجاج وقال والله لا أعْنتُ عليكم ولا زدتكنّ ضَعفا، فعفا عنه وأجزل له العطية، وكتب ذلك إلى عبدالملك...
ألا يجمل بنا أن نقول { تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عمّا كانوا يعملون } <٧>
-------------------------------------------
الهامش:
<١> الجاحظ، الرسائل الكلامية، ص ٢٤٤ ، دار مكتبة الهلال.
<٢>السيوطي، تاريخ الخلفاء، ص ٢٢٠.
<٣>البلوي، الف باء، ج ٢، ص ٤٧٥.
<٤>ابن خلّكان، وفيات الأعيان، ج ١، ص ٣٤٣.
<٥> د . يوسف القرضاوي، مسرحية عالم وطاغية، مؤسسة الرسالة، ١٤٠٢.
<٦>ابن عساكر، تهذيب التاريخ دمشق، ج ٤، ص ٧٩.
<٧ >سورة البقرة، آية ١٣٤، وآية ١٤١.
- جدة -
المجلة العربية - ربيع الآخر ١٤١٨هـ