بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 22 نوفمبر 1997

إن النساء شقائق الأقوام ( مقال )




كتبت إلي الإبنة (( أمل س )) تقول : إن اعجابي بمقالك (( أحب بني العوام طرآ لحبها )) هو الذي حثّني لأن أكتب إليك، وتقول : إني كنت مع المرأة قلباً وقالباً. رفعت من شأنها أمام بعض أدعياء الرجولة، ممن يخافون تسطير أي سطر عن المرأة. وتقول : بتنا نبحث عن الحب والحنان بعد أن فقدناه في هذا الزمن الحجري الرديء،  بتنا نخاف الزواج هرباً من الاضهاد الذي يمارسه بعض الرجال .. أقول : أشكر لك يا بنيتي حسن ظنك بي، وما قلته عن الاضطهاد، فليس إلى هذا الحد، فالناس بخير، وإن كان هناك قلة قليلة ينظرون إلي المرأة نظرة غير حضارية، فالكثرة الكاثرة مثقفون واعون، يحترمون المرأة، ويقدرون دورها، ويدركون أن إسهامها مهمٌّ جداً في بناء المجتمع وتنميته، فالأسرة وهي الخلية الأولى للمجتمع تلعب فيها المرأة دورآ كبيراً ومهماً، فهي المسؤولة عن تربية الأبناء، وتنشئتهم التنشئة الصالحة، تخلق منهم القادة والمربين والمفكرين والمسؤولين، وهي - أي المرأة - منزعُ فخر الإبن وثقة الأب، ولقد نزع النبي صلي الله عليه وسلم -وهو أفضل الخلق وسيد الرسل- بفخره إلى أمهاته في الجاهلية، فقال عليه أفضل الصلاة والسلام (( أنا ابن العواتك من سليم )) أفبعد هذا يكون لقائل مقال، إن افتخاره صلى الله عليه وسلم بأمهاته يرفع رأس المرأة الصالحة، ويقوي عزيمتها، وينير دربها، ويوضّح مسلكها، وشبيه بذلك ما قاله علي ابن ابي طالب للأشعث بن قيس عندما خطب ابنته : (( غَـرّك إبن أبي قحافة إذ أعطاك ابنته وليست من الفواطم من قريش ولا العواتك من سُليم ))<١>.
وأفيض في ذلك وأقول : إن المرأة أجارت، فاحتُـرِم جوارها إكراماً لها وإعزازا .. حدّثوا أن سُبيعة بنت عبدشمس بن عبدمناف كانت زوجاً لمسعود بن معـتّب بن مالك الثقفي، وهو سيد قومه وقائد حربهم ومَرَدّ أمرهم، فلما نشبت حرب الفجار بين كنانة وقيس، كان ابن أخيها حرب بن أمية بن عبدشمس هو قائد الجيش الكناني، وزوجها مسعود قائد الجيش القيسي، فضرب لها زوجها خباءً وراء جنده في عُكاظ ولما دخل عليها قبيل المعركة، أبصر الدموع في عينيها، فسألها ما يبكيكِ ؟ قالت : أبكي لما عسى أن يصيب قومي، فقال لها من دخل خباءك من قريش فهو آمن، فوسّعت خباءها، وأخذت توصل به قطعاً، ليسع الكثير من قومها، وبدأت المعركة واستعرَّ أوارها، وانكشفت قيس وانهزمت، فخرجت سُبيعة وصاحت في الناس من دخل خبائي فهو آمن، ومن تعلّق بطنب من أطنابه فهو آمن، فلما سمعها ابن أخيها حرب بن أمية، أمْضَى قولها وصاح يا عمة، من تمسك بأطناب خباءك فهو آمن، ومن دار حوله فهو آمن، وخرج ابناؤها عروة ونويرة والأسود وهم غلمان في قبائل قيس يأخذون بأيديهم إلى خباء أمهم، فلم يبق قيسيٌّ إلاّ اعتصم بخبائها فسُمِّيَ الموقع مدار قيس، فإن قيل مدار قيس فالفضل فيه لامرأة أجارت فأمْضِيَ قولها، وحُفظ جوارها، واحترمت جيرتها، ودفعت بابنائها ليقودوا الناس ويسودوا،  يقول الشاعر <٢>
ألم تسأل الناس عن أمرنا     **      ولم يثبت الامر كالخابرِ
غداة عكاظ إذا استكملت       **      هوازن في كفها الحاضرِ
وجاءت سُليم تهُـزُّ القنا        **     على كلِّ سَلْهَبَةٍ ضامرِ
وجئنا إليهم على المضمرات   **     بأرعن  ذي لجبٍ زاخرِ
فلما التقينا أذقناهُمو            **     طعاناً بسمر القنا العائرِ
فـفـرّتْ سُليم ولم يصبروا       **    وطارت شعاعاً بنو عامرِ
وفـرّتْ ثقيفُ إلى لاتها         **      بمنقلب الخائر الخاسرِ
وقـاتـلـت الـعِـنْـسُ شـطْـر النهار ثُم تولّـتْ مع الـصّـادرِ
على أن دهمانها حافظتْ      **     أخيراً لدى دائرة الدائرِ
هذه هي المرأة إن ذُكرتْ ذُكرتْ بخير، موقع الفَخار وطيب النَّجار، وليس في ذلك غمط للرجل أو انتقاص، بل هو الفخر كل الفخر، فالمرأة كما قلت من قبل هي الأم، هي الحليلة والحبيبة، هي الأخت، وهي الإبنة، كرامتها من كرامة الرجل، وعـزّتها من عزّه، وهذه المرأة التي تحدّثت عنها آنفاً هي أم الصحابي الجليل عِـروة بن مسعود الثقفي الذي يروَى أنه أحد المعنيين بالآية الكريمة (( لو لا نُزّل هذا القرآن على رجلٍ من القريتين عظيم ))<٣> وهو الذي حزن النبي صلى الله عليه وسلم لمقتله وقال :(( مثله كمثل صاحب ياسين في قومه )) عـروة بن مسعود الثقفي تربَّى في حضن هذه المرأة الجليلة، نشّأته نشأة صالحة، وربّته تربية مثلى، فأصبح رجلاً معدوداً بين الرجال حنكة ومعرفة ورويّة، ولهذا عهدت إليه قريش بمفاوضة النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاء عليه أفضل الصلاة والسلام مع صحبه معتمراً، ولم تكن لتعهد إليه لولا إدراكها برجاحة عقله، وطيب رأيه.
إن مكانة المرأة في نفوس الرجال لا تعدّها مكانة، وموقعها من قلوبهم لا يعْـدله موقع، بسبها تنشب حروب، انتصاراً لها وانتصافاً لحقّها، وفي حرب البسوس ما يعطي الدليل، ويوضح شيئاً من هذا القبيل، وفي حرب الفجارالثانية وقع القتال بسبب عبث شباب من قريش و كنانة بإمرأة من بني عامر، كانت المرأة جميلة وضـيـئـة وعليها برقع، فأرادوا كشف برقعها فامتنعت وصاحت يالعامر، ونادى الشباب قومهم، فتحاجز الناس بعد أن وقعت بينهم دماء، وانتهت بتوسط حرب بن أمية بن عبدشمس واحتمل دماء القوم وأرضَى بني عامر، كل ذلك من أجل كرامة المرأة ومكانتها، لأنها مثار عاطفة الرجل، تحتلُّ في حياته موقعاً كريماً، وتقوم بدور إيجابي في حربه وسلمه.
نعرف أن النساء في الحرب يقمن بدور المحرِّض والممرِّض.
وفي يوم تحلاق اللّمم بين بكر بن وائل وتغلب قامت المرأة بواجبها، فقد حملت كل امرأة من بكر بن وائل قربة من الماء وهراوة غليظة، فإن وجدت جريحاً من قومها أسعفته وسقته من قربتها، وإن وجدت جريحاً من الأعداء أجهزت عليه بهراوتها.
أأحدثكم بيوم حليمة !!  وما يوم حليمة بسر خرج المنذر بن ماء السماء ملك الحيرة، يبغي قتال الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشام الذي خرج أيضاً لملاقاته وقتاله، وفي الطريق جاء للحارث من أعلمه أن جيش المنذر، ذو عدد وعـدّة. وانه لا قبل له بملاقاته، فلما تراءَى الجمعان، اختار الحارث مئةً  من فتيانه الأشدّاء، وأمرهم أن يأتوا المنذر فيدينوا له بطاعتهم وطاعة أهل الشام، فاذا أنسوا منه الغِـرّة فتكوا به، وطافت بهم ابنته حليمة فضمّختهم بالطيب وحرّضتهم، فخرجوا وهم أشد ما يكون عزماً وحميّة، فذهبوا وقتلوا المنذر وهو بين شجعان قومه، حتى إذا سمع الحارث صيحة الظّفر من فتيانه زحف بجموعه على جيش المنذر وأوقع  بهم وسُمِّيَ ذلك اليوم :
 يوم حليمة تمجيداً للمرأة التي حرّضتهم وشجّعتهم، هذه هي المرأة العربية تذكي الحميّة ، وتقوّي العزيمة، وتؤثِّـر في الفتيان إيجاباً لمصلحة قومها وجماعتها، وليس ذلك فقط جهد المرأة ودورها، بل تعدَّى ذلك إلى أنها قادت الجحافل وساست الجماعة. حدَّثوا أن طيئاً مكثتْ دهراً تفيئَ  في غزواتها إلى امرأة منهم يقال لها رقاش، يستضيئون برأيها ويعتزّون بشجاعتها، ويرقبون النصر من خفقة سيفها وطعنة رمحها، ولم تكن الوحيدة فقد سبقتها في ذلك ملكة سبأ وحديثها في القرآن الكريم معروف، قال لها قومها: (( قالوا نحن أُلو قوةٍ وأُلوا بأسٍ شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين ))<٤> (( الأمر إليها قالوه بإجماعهم ولم يكن في ذلك ضَيْـرٌ عليهم أو منقصة، فإذا حزبهم أمر فالرأي لها تشير وتدير وتأخذ ما تراه صالحاً.. وما كان ذلك إلاّ  ثقة برأيها وحسن تدبيرها وسلامة تفكيرها.
قلت ما قلت من شواهد إنصافاً للمرأة، وأنا لا أحب أن تكون هناك مجابهة بين الذكور والإناث. فلا غناء لهذا عن تلك. ولا استغناء من هذه عن ذاك. ولقد كان الرجل يمتدح المرأة وهو مفارقها لظروف وأسباب، وهي تمتدحه وتشيد به، حدّث أبو عمرو بن العلاء قال : تزوج رجل من بني غدانه بامرأة من جعـدة، ثم وقع بين الحيين ما حمله على فراقها، فلما اعتزمت الرحيل قال لها : استمعي ويستمع من حضر، أما لقد اعتمدتك برغبة، وعاشرتك بمحبة، ولم أجد عليك زلة، ولم تدخلني لك مَلّة، ولكن القدر غالب، وليس له صارف، قالت المرأة أثنيت وأنا مثنية، فجزيت من صاحب ومصحوب خيراً، فما استربتُ خيرك ولا شكوتُ ضَيْـرك، ولا تمنّتْ نفسي غيرك، وما ازددْتُ إليك إلاّ شرهاً، ولا أحسسْتُ لك في الرجال شبهاً، ثم افترقا. هذا هو الوفاء، وفاء الرجل ووفاء المرأة .. وهذا هو التقدير كل منهما يقدّر صاحبه ويثني عليه بما هو له، قال صعصعه بن صوحان لمعاوية بن أبي سفيان، يا امير المؤمنين كيف ننسبك إلى العقل وقد غلب عليك نصف إنسان (( يعرّض بأنه يستمع لزوجته )) قال معاوية : إنهن يغلبن الكرام، ويغلبهن اللئام.. حقيقة ما يغلبهن إلا اللئيم.
--------------------------
الهامش
<١> العواتك من سليم هن . عاتكة بنت هلال بن فالج بن ذكوان ام عبد مناف بن قصي وعاتكة بنت مرة بن هلال ام هاشم بن عبدمناف وعاتكة بنت الاوقص بن مرة بن هلال ام وهب بن عبدمناف جد رسول الله صلى الله عليه وسلم لامه فالاولى عمة الثانية والثانية عمة الثالثة. 
والفواطم من قريش هن : السيدة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة بنت اسد زوج أبي طالب بن عبدالمطلب، وفاطمة بنت عبدالله بن عمر بن عمران جدة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
 <٢> الشاعر هو ضرار بن الخطاب الفهري. الاغاني جزء ٢٢ ص ٧٣.
<٣> الآية ٣١ من سورة الزخرف.
<٤> الآية ٣٣ من سورة النمل.

نشرت في جريدة عكاظ يوم السبت ١٤١٨/٧/٢٢ هـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق