بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 29 نوفمبر 1997

لاتعذل المشتاق في اشواقه (مقال )



تأقلم الفتى مع الطائف معيشة ومجتمعا , بعد أن اكتسب لهجة أهله , وتكيّف مع حياتهم وطريقة معيشتهم , وزالت الوحشة التي كانت تغشاه في ليله ونهاره، ألف الطائف طرقا وسوقا, ومدرسة وبساتين, كان الطائف آنذاك مدينة صغيرة تقبع داخل سورها الذي يحيط بها إحاطة السوار بالمعصم , ترقد بعد العشاء(بكسر العين) وتصحو مع إسفار الصباح وخارج السور تنتثر البساتين الزاهية بخضرتها , خضرة تمتد حتى الأفق , وأشجار مليئة بالثمار, وقلوب مليئة بالطيبة والمحبة والوداعة ,كما ألف الفتى رفاقه في المدرسة , ولم تعد بينهم ترات ومشاحنات , ولم يأت ذلك إلا بعد جهد  وصبر منه واصطبار على أذيتهم وتعليقاتهم وسخريتهم وملل منهم على تكرار أفعالهم , أصبح الفتى يشارك زملاءه لعبهم ، أنس بصحبتهم, وهم كذلك أنسوا بصحبته, وهاهم اليوم ومنهم من جلّله الشيب, ومنهم من يتوكأ على عصاه , ومنهم من يحجل في مشيته (مشي السحابة لاريث ولا عجل 9 لايزالون في صلة واتصال وإن بعدت بهم المنازل .
بدأالفتى يتعوّد على الحياة في ذلك المجتمع الذي كان غريبآ فيه وغريبآ عنه ، وبدأ يألف طباعه ويكتسبها , ومع تعوّده واعتياده بدأت حدة الشوق تخفت , وحرقة التشوّق تبرد, وتباعدت هواجس الذكرى والتذكّر. والنسيان نعمة من الله, وعطيّة من عطاياه سبحانه وتعالى ,, وإن كانت لذعة الحنين لازالت تعاوده بين وقت وآخر, ولازال هناك بقية من الحزن تكمن في الزاوية تظهر عند كل موقف عاطفي أومشهد حزين و لم يعد الفتى يحزن لنفسه فقط , بل ويحزن لغيره , هذه المشاركة فرضتها الظروف عليه, الظروف التي دهمته وداهمته وهو بعد طريّ العود ،  فأثّرت في نفسه أيما تأثير ,وتغلغلت في حشاه , واندسّت في شغافه, لايملك لها دفعآ, ولا منها فكاكا, وقبيل أن يألف , وقبل أن يتكيّف كان على الصغير أن يزور جدّته (عوّاضة السعدية), وأن يسلّمها مظروفا من والده به ماتيسّر , وكانت جدّته تسكن في الخلاوي , والخلاوي غرف صغيرة متواضعة أعِدّتْ للفقراء والمعوزين , ممن لاأهل لهم ولاسكن ولا مأوي ولا مكان , بناها لهم أحد المحسنين , في دور أرضي واحد , وأمام كل غرفة مساحة صغيرة كأنما هي صالة في جانبها دورة مياه, وفي الجانب الآخر يقبع زير الماء, وليس للغرف أبواب تفتح وتقفل, وإن استعاضوا عنها بستارة من الخيش تغطّي مدخل كل غرفة  وتسترمدخل دورة المياه . 
جاء الفتى إلى الخلاوي, يسال عن جدته ليزورها , وعندما دخل إلى الممر,نادى جدّته,فأطلت امرأة عجوز, وأشارت إلى غرفة في نهاية الممر. وهناك وجد جدّته (عوّاضه) التي لم يسبق له رؤيتها من قبل. دخل الصغير إلى الغرفة بعد أن ناداها, ورأى الصغير إمرأة عجوزآ تغضّن وجهها, كفيفة البصر, تجلس على فرشة بالية, وكلُّ ما حولها ينبئ عن الفقر والفاقة,قالت العجوز من أنت؟ قال لها أنا فلان,شهقت العجوز, واحتضنته وقبّـلته بحرارة,وبدأت الجدّة تبكي, والصغير معها يبكي, ذكّرها بوحيدتها التي أمضّها الحزن عليها ، فأسبلت عبراتها في بكاء حار,ونشيج مؤلم,تحتضن  الصغير وتقبّـله وتشمّه,كأنما تنشد ريح أمه, وأين منها ريح أمه!! وبكى الصغير مع جدّته نكأت ببكائها جراحه,وأسالت بنشيجها عبراته, وذكّرته-عفا الله عنها- بماضٍ هنيئ مع أهله, وواقع أليم مؤلم مرير يعيشه, واقع يشتكي فيه غربة روحه وغربة نفسه وغربة مجتمعه, وبعد أن أفاءت جدّته إلى نفسها , وأفاء الفتى إلى نفسه كفكفا العبرات, وسلمها ما أرسله والده معه, وبدأ الصغير يسأل وجدّته تجيبه, عرف منها أنها أي الجدّة كانت تسكن مع ابنتها (أمه) قبل أن تنتقل إلى الظفير مع زوجها (والده) وعرف أن زوجها (جدّه لأمه) صويلح السعدي توفي عنها (عن جدّته) ولم يكن لها أحد سوى ابنتها صالحة (أمه) وهاهي ابنتها تغادر الدنيا الفانية إلى دنيا خالدة في رحمة الله إن شاء الله, وعرف الصغير أن والده رضع في بني سعد وتربَّى وكبر عندهم وتزوّج منهم ، كل ذلك عرفه الصغير من جدّته إثر الزيارة  لجدّته التي غمرته بعطفها وحنانها ومحبتها .
استأذن الفتى من جدته وخرج ,لكنه لم يقطع زيارتها . كان يزورها بين وقت وحين, ولاحظ أن جدّته (تخطّ) والخطّ هو رمي الودع والنظر فيه لقراءة الطالع والبخت,وسألها الصغير : ويش هذا يا جدّة ؟ فأجابته : أخط يا وليدي, فأعاد السؤال ويش تخطّين ؟ قالت يا وليدي اتسلّى, وراقبها وهي تخط, ترمي الودع  ثم تلمسه بيدها وتتحسّس مواقع كل قطعة,ولم يكن الصغير يعرف شيئا آنذاك عن الطالع وقراءة البخت. كان أهم شي عنده آنذاك أن هذه الجدّة حنون عطوف,تفرح بزيارته لها ,وتحدّثه وتقصّ عليه قصصا مسلّية,فاصبح يتعهّد هذه الجدّة,يأتي اليها ليقضي طلباتها المتواضعة، ويسعد بالجلوس اليها وسماع حديثها , وتجرّأ مرّة وسألها : ليش عيونك بيض يا جدّة؟ قالت: عميت ياوليدي. ثم سألها كيف عميت؟ قالت: الجدري –الله يجيرك يا وليدي- أكل عيوني , وتخوّف الصغير أن يسألها بعد ذلك كيف استطاع الجدري أن يأكل عينيها, على أنه تلك الليلة حرص قبل نومه أن يضع كفيه على عينيه حماية لها حتى لا يأكلها الجدري ,إذ كان يظن آنذاك أن الجدري حيوان ينهش العيون, حتى تبيّن له بعد وقت أن الجدري-أجاركم الله- مرض وأنه قد أصابه وخلّف آثارآ على وجهه, على أن أهمّ حدث آنذاك سعد به الصبي,كان مجيئ والده إلى الطائف على غير توقّع أو انتظار ، كان الصغير يجلس في (الصفّة) وسمع صوتآ يناديه كصوت والده, لم يصدِّق الصغير أذنيه, ولكنه اندفع إلى مصدر الصوت جريا على الدرج,وقبيل أن يصل جاءه الصوت مرة أخرى , صوت أبيه الذي يعرفه ولا ينكره.
فزاد اندفاعه  إلى حيث والده,ورمى بنفسه  عليه يقبِّـله ويبكي ,بكاءً حارآ,وينشج نشيجآ ينسحب من أعماقه, كان موقفآ مؤثِّرآ, لم يملك معه الأب إلا أن يستجيب مع صغيره,فسالت دموعه, وسمع الطفل قول من حولهم آنذاك ,لائمين ضاحكين, اذ الموقف موقف فرح وغبطة,وليس موقفا تذرف فيه الدموع, سامحكم الله,قالها الصغير في نفسه, ألا تعرفون معاناة هذا الصبي؟ ألاتدركون ماذاتعني هذه الدموع؟ إنها تترجم أشواقه واشتياقه, إنها تعبرعن لهفة لملاقاة والده وفرحة بوجوده, إنها رسالة حنين تغلغل في صدر الصبي, إنها صرخة ملام,أن تجْمَعوا على الصغير مرارة الفقد , ومرارة البعد  .وها هو ذلك الصغير في لحطته هذه وهو يسترجع ذكرياته , وقد تجاوز الستين,تترقرق دموعه,وتدركه غصّة مرّة في حلقه,رغم هذه السنين التي مرّتْ, ورغم هذا الدهر الذي مضى وانقضى, لازالت الجراح نديّة,  خدّدت وقدّدت , فاذا جاءت الفرصة , اندفعت بغصّة في الحلق ودموع تقف على الحاجر,يمنعها الحياء أن تسقط ,وهي إن سقطت لأراحت بتعبيرها عن مكنون يحترق في داخله ,ويستعر في حناياه. سامحكم الله,كيف تتركون صغيرآ يعيش غربة مُرّة أثّرت في نفسه ونفسيته,وتركت أثرآ لن يزول مهما تقادمت الأيام.
بقي والد الفتى في الطائف بضعة أيام,ثم غادر إلى الظفير وكان الوداع محزنآ, ولكنه أضاء شمعة أمل عند صغيره أنه في الإجازة الصيفية,سيذهب إلى الظفير,ليقضي إجازته عند أهله وفي مراتع طفولته,فكان يقتات بهذا الأمل ,يتعجّـل الأيام ,ويستعجل الأسابيع. حتى جاءت الإجازه الصيفية. ونترك ذلك لموعد آخر إن شاء الله. 

نشرت في جريدة عكاظ , السبت 29/ 7/ 1418هـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق