بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 14 مارس 1998

المقامة الضبّية ( مقال )



حدّثني طامر بن أبي طامر وهو من الثّقاة الأكارم قال : خرجت إلى البرّيّة في يوم من الأيام أثناء فصل الربّيع ، والبَرُّ مبتغَى للجميع، وغير بعيد عنّي تحزّب جماعة من الفتْيان ، لهم هيئة الفرسان في يوم الطّعان، وهم يعدّون جراكل الماء ويُقرِّبون الدّلاء، وبعد قليل علاالصّياح واشْتدّ الكفاح، وإذا الفتية قد تجمّعوا قرب الجحور وجعلوها تموج مثل البحور بعد أن أغرقوها بالماء صباً من الدلاء، ومنهم من وجّه عوادم السيارات بما تقذفه من غازات إلى جحور الضبّان، ومنهم من تحزّم وتعمّم، ومنهم من شمّر ولا تذمّر، فمن نابضٍ(١) يبري النّبال ومشمّرٍ مُتهيئٍ للنّضال، وفرقةٍ عند الجحور ملتئمة، وشرذمة مع الضبّان ملتحمة، فاصطادوا تسعاً وتسعين وكانوا يطمعون في المئين، فلما انتهَى العراك جلسوا الفتية إلى شيش الجراك  ، وبدأوا يتضاحكون وبصور تصرّفاتهم يتندّرون، كأنّهم فتحوا فتحاً أو رأبوا(٢) جرحا، وهم بين مستهترٍ عابث(٣) ومفسدٍ عائث(٤)، فلمّا قضَى النّهار نحْبه ونوّر الليل شُهْبه، قام قصّابهم يشحذ سكّينه وشمّر عن يمينه، وجيئ بالأسارَى وهم حيارَى فذبحهم واحداً واحداً قائماً وقاعداً، وكل ضبٍّ يتّقي الذّبح بيديه ومن الخوف يُسحِّب رجْليه، ولكن القصّاب لم يرحمهم وابتسم بعدما جنْدلهم، وأُعِدّت القدور ومُلئت بالماء لتفور، وكأنّهم " أي الفتية" لايجدون بُلْغة(٥) ولا يمتلكون مُضْغة(٦)، فانتحَى طامر في ناحية مُبْتعداً عن الزّبانية، فسمع صوتاً آتياً من بعيد كأنه صليل الحديد، فاقترب قليلاً ليُشفى غليلاً، فرأى مجموعة من الضبّان تنادوا إلى اجتماع للمداولة وتبادل الرّأي والاستماع، فقام خطيبهم وقال : يا آل الضبّان يا أبكار الزّمان وفرائد الأزمان، أرأيتم ما حلّ بساحتنا وما وقع على جماعتنا ؟ فلا بيت إلّا ومنه مأسور، والبكاء لا يُذهب مافي الصدور، فدعونا نتداول المشورة، ونقلّب الرأي صورة بعد صورة، لنخرج برأي مكين نتّقي به - بإذن الله - عبث العابثين وتجنِّي العائثين، وقبل كل شيء دعونا نستفتح بالدّعاء ونبتهل إلى العزيز الكريم ونَعُذْ بإسمه العظيم من جَوْرِ المجاورين ومجارة الجائرين ومعاداة العادين وعدوان المعادين ،  فارتجّ السهل ورّجّع الجبل بالتأمين آمين آمين يارب العالمين، ثم قال خطيبهم بعد أن سالت عَبْرته وأغرقتْ سَبْلته(٧) : إن الكثير من بني الإنسان استمرأوا العدوان على بني الضبّان، والله قد أنعم عليهم فتكاثر الخير لديهم  ، من لحوم وأجبان وأطعمه مختلفة الأشكال والألوان ،  تُجبَى إليهم من جميع البلدان في كل آن وأوان، ورغم هذه النّعم العظيمة والآلاء(٨) الجسيمة إلا أنهم بصيد الضبّان مغرمون ،  وبمطاردتهم مولعون، وحول جحورهم يتحلّقون ولأكل الضبّان يتجمّعون، ألا يحمدون الله؟ ألا يشكرون الإله؟ هل ضاقت عليهم العيشة؟ وصعب عليهم العيش والمعيشة؟.
يابني الإنسان ياصفوة العرب ونقوة العربان أُحذِّركم عواقب الطّغيان، وأُذكِّركم بحق الجار الذي أوصَى به النبي المختار صلى الله عليه وسلم وعلى صحبه الأبرار ماتعاقب الليل والنهار، ألستم خير أُمّة أُخْرجت للناس؟ تعوّذّوا بالله من شر الوسواس الخنّاس قبل أن يقع الفأس بالرأس، ألا تكفيكم الخرفان والجذعان من الضأن ولذيذ لحم الطيور والقعدان؟ بدلاً من الإمعان في ذبح الضبّان، كفّوا عن العدوان يابني الإنسان فالضبّان يتظلّمون وبشكواهم يجأرون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ، ثم تحدّرتْ عبراته وعلتْ زفراته : فقام من مقدّمة الصّفوف حكيمهم المعروف وقال: وُقيت من خطيب ضيراً وجُزيت خيراً، لقد صدَقَتْ لهْجتك ووضَحَتْ حُجّتك، وبئْس الزّاد للمعاد العدوان على العباد، وعلم الله لقد خبطنا الظّلماء  ، وركبنا العشواء، واكتحلنا السّهاد  ، وانزوينا من الأنجاد في الأغوار والوهاد، والرّأي أن نقول لبني الإنسان هؤلاء : تعالوا إلى كلمة سواء، ونوقّع عهداً ونُمضي تعهّدا، ألا يعتدوا فإذا أضحَى التّراب يابساً(٩) والمرعَى عابساً(١٠) ومسّتهم اللأْواء(١١) وبلغت القلوب اللُّهاء، ولم يبقَ لهم سارحة ولا رائحة ولا يمتلكون ثاغية ولا راغية ،  فلهم الرُّخصة أن يصطادوا من الضبّان مايرجون ،  دون إسراف أو إنجراف. ثم قام شاعر الجماعة وقال : أنا ابن جلا واضع العمامة ورافع العلامة، ألاترون أن العدل أقْوَى جيش والأمن أهنأ عيش؟ والحق يلزمه شدّة ولا يتأتَّى إلا بجذّة بعد جَذّة(١٢) وماأُخذ بالقوّة لا يستعاد إلا بالقوّة ثم رفع رأسه وأنشد :
تراءَتْ لنا بنت الضّباب عشيّة     **      تُرجّل شعراً كالمثانَيَ فاحما(١٣)
فقلت لها  : بنت الضّباب أسرتني  **     فقالت : عليك اللّوم لاتكُ لائما
ألم تُرسل العينين ترْدادُ نَجْعةً ؟     **    وتأمل أن تأوي سليماً وسالما
فقلت لها لاتظلميني ضبيبّة         **    كفانا بني الإنسان ظُلماً وظالما
هموا ذبحوا قومي بدون رويّة       **    همو روّعونا فاجتزعنا المخارما(١٤)
فيا قوم هبّوا هبّة ضبيبة            **    ونجعلْ بني الإنسان ينكت(١٥) واجما
فلا يستقيم الحق إلا بضربةٍ         **    تُعيد لنا حقاً وتُخزي مراغما
وإني قمينٌ إن فعلتم لصرتمو        **    مهابين لا تخشَوْن ضيماً وضائما
فارتاحت النفوس وتقاربت الرؤوس  ، وقال بعضهم : لا تحقرنّ صغير الفساد فيأخذ في الاستئساد، وبينما هم في جدال كما هي مجالس الرجال، أقبل من بعيد ضبُّ على ذلول أزب(١٦)، فاشرأبت إليه الأنظار وتعلّقت به الأبصار، ثم نزل في حركة خفيفة وأقبل في هيئته النظيفة، فقام له الجمع وحيّوه وبالخير والرأي السّديد ذكروه ، فلماّ تربّع وسط الحلقة تمثّل بقول الشاعر :
"إن الغريب طويل الذيل ممتَهَنٌ      **     فكيف حال غريب ماله قوت"
"وطالما أُصلي الياقوت جمر غضا    **    ثم انطفَى الجمر والياقوت ياقوت"
فردّد الجميع من بعده "قوت" ،  فاستأنف الحديث وقال : كيف ياقوم تجتمعون وعنّي ترغبون، ألست زعيمكم وحامي بعد الله حريمكم ؟ فنكّس الجميع رؤوسهم ،  فقال : لا تثريب عليكم يغفر الله لكم ، ثم استمع إلى خلاصة مرئياتهم وأصْغَى إلى حيثياتهم، فلما أنهوا حديثهم قال : لاشك أن الحق يلزمه قوّة والسلام لا يضمنه إلا هيئة مرْجّوة، ولقد جهل علينا القوم وفتكوا بنا يوماً بعد يوم  ، فلا أقل من تعليم الجاهل ومجازاة المتجاهل ، ونحن جماعة الضبّان نرغب وإيم والله في التعايش مع بني الإنسان  ، بحيث لا نخاف بائقته(١٧) ولا نخشى غائلته(١٨) ، والضبّان كما تعلمون أُمّة من الأمم  ، تتقيّد بأعراف هيئة الأمم، وأنتم على ثقة أن( كوفي عنان) لا يُشجّع على أكل الضبّان ، وكانت مساعيه في العراق باتعة ، تدل على أنه باقعة ، والرأي أن نرسل إليه برقيّة ، فقالوا : ياشيخنا أنت سبّاق غايات وصاحب آيات ، فأملَى البرقية على الرّبع وضمّنها كافات الشتاء السّبْع، ثم أردف قائلاً : لا يَطْمع في الحيف شريف  ، ولا ييأس من العدل ضعيف ، ونحن أُمّة الضبّان بين جناح مهيضٍ  ، وقلب مريضٍ ، نتعشّم أن تميل إلينا بطـرفـك وتتولّانا بعـطـفـك ، ولكل وقت أجـل ، ولكـل أمر رجـل ، وأنت رجـل المهمّات ، أنهـيت الأزمات ، ورأبْـت ثـأي(١٩) العشيرة ، وسحبت من تحت الأقدام الحصيرة ، قبل الضربة القاضية ، والنزعة الباغية ، وأدخلت المفتّشيين القصور ، بعد أن جُوبهوا بالنّفور ، ونادوا بالويل والثّبور، والرأي أن تكتب عهداً لا يُنقَضْ ، ووثيقة من الطرفين لا تُرفَضْ ، تحميها هيئة الأمم من الخَفْر واللّمَمْ ، ثم ختم البرقية بختمه ووسمها بوسمه ، وقام مودّعاً الحضور بوجه مسرور زالت منه حرارة الإرتماض ودلائل الإمتعاض ، وسلك الثنيّة  ، متجهاًإلى الحويّة، ومن ثَمَّ إلى عُكاظ ليجمع الصم المعجرفة الغلاظ ، فإن حل الوئام وساد السلام فذلك مايتمنّوه  ، والّا ركبوا الأهوال ونبّلوا النّبال ،  فعسى أن يُتدارك الأمر قبل أن يستفحل ، بعهود محقّقة ، ومواثيق مصدّقة ،  والأمل في الله فهو نعم المولى ونعم النصير.
-----------------------------
الهامش
(١)نابض : نبض القوس أي جذب وترها لترن.
(٢)رأب : أصلح، عالج.
(٣)عابث : لاعب ، والعبث مالافائدة منه.
(٤)عائث: مفسد.
(٥)بُلغة : ما يتبلّغ به الإنسان من الطعام.
(٦)مُضغة : مايضعه الإنسان من الطعام في فمه ويلوكه ويمضغه.
(٧)سبلته : لحيته.
(٨)الالاء : النعم.
(٩)أضحى التراب يابساً : كناية عن الجدب.
(١٠)المرعى عابساً : كناية عن الجدب.
(١١)اللأواء : ضيق المعيشة.
(١٢)جذّة : الجذ القطع المستأصل وقيل الكسر.
(١٣)فاحماً : أسود.
(١٤)اجتزعنا المخارما : سلكنا الجبال.
(١٥)ينكت : يطرق برأسه.
(١٦)أزب : كثير الشَّعَر.
(١٧)البائقة : الشر أو الداهية.
(١٨)غائلته : شرّه.
(١٩)رأب ثأي العشيرة : رتق الخرم والضعف فيها ، أصلح الفاسد من أمورها.

نشرت بجريدة عكاظ السبت ١٤١٨/١١/١٦ هـ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق