بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 11 أبريل 1998

دولة العز والهدى والفلاح (مقال)

لبّيك اللهم لبّيك ، لبّيك لا شريك لك لبّيك  ، بهذا النداء العظيم لبّى الملبّون، وقفوا على صعيد عرفات، يتضرّعون إلى رب العزّة والجلال، تاركين المال والأهل والولد، وقفة الضّراعة الذّليلة أمام الصمديّة العزيزة، وقفة الخضوع والاستكانة أمام  رب  العزّة والرحمة. وقف الحجاج في مشهد إيماني مهيب ليعلنوا كلمة الله الخالدة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وسالت جموعهم إلى المزدلفة في ابتهال وذلّة وخشوع، يتضرّعون إلى الواحد الأحد الفرد الصّمد، مُتجردين من الأهواء، متحدين في التوجّه، مُخلصين في العبادة، لا يصرفهم عن تجرّدهم غاية دنيوية، ولا يعوقهم في توجّههم رغبات حياتية، ثم سارت جموعهم إلى منى فالبيت الحرام ، تحفّهم عناية الله ، في يسر وسهولة وراحة وطمأنينة، برعاية واعية وتخطيط سليم، وخُطط مدروسة، وآمن شامل تحقّق بفضل الله ومنّه وجوده وكرمه.
أكمل الحجاج بتوفيق الله مناسكهم، وقضوا بحمد الله تَفَثَهم، وشهدوا - برعاية الله - منافعهم ، وذكروا الله في الأيام المعلومات، وتوسّلوا إلى الله العلي القدير، أن يجعل حجّهم مبرورا، وسعيهم متقبّلا مشكورا.
كان الحج، والحمدلله، غاية في التنظيم، ورائعا في التخطيط، ودقيقا في التّطبيق، وسهرت الدولة، رعاها الله، على تيسير الحج وأداء النسك، بذلت في ذلك النفيس وأرخصت كل غالٍ في تيسير السّبل، وتهيئة الطّرق، وترتيب السكن، وتوفير جميع الخدمات، جعلت خدمة الحجيج هدفا من اهدافها، وغاية من غاياتها، أمٌنت الطرق، وسهرت بإخلاص على خدمة وفود بيت الله الحرام، كأفضل مايكون وأحسن مايكون، وضعت الخطط، واستنفرت كلَّ اجهزتها لهذه الغاية النبيلة، بذلت بلايين البلايين لحفر الأنفاق، وشيدت الجسور، وبنت الطرق الواسعة الفسيحة، كل ذلك ليسْهُل تنقّل الحجاج بين  مناطق الحج والمشاعر، لا يعوقهم عائق، ولا يحبسهم حابس، ولا يُعطّل حركتهم ازدحام، فعلت ذلك وتفعل غيره من تحسين وتطوير دون  منٍّ ، تعمل ذلك بصمت واستشعارا بواجبها المقدس، والشاهد على ذلك ما قامت به وزارة الأشغال العامة والإسكان من إنشاء مشروع إسكان الحاج في منى، والذي نُفِّذت المرحلة الأولى منه بما يسع لأكثر من خمسمئة ألف حاج.
 وعندما ينتهي الحج، تبدأ اللجان المتعددة في تقييم العمل، ومراجعة التقارير، لتتلافى القصور - إن كان هناك قصور -  في المواسم القادمة.. وترى الدولة بجميع اجهزتها في عمل دؤوب مستمر طيلة السنة، مراجعة ودراسة ورأيا للعمل من أجل الحج القادم، فكرا وتخطيطا وتحسينا وبذلا.
ولقد تحقق على يد الدولة الرشيدة قول الحق سبحانه وتعالى {وإذْ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا} توخّت بذلك وجه الله ، وابتغت بذلك مرضاة الله، فكان نتاج عملها الخير المطلق، والعظمة المطلقة، فوفقها الله عز وجل في مساعيها، لأنها توسّلت بأعمالها وجه المُهيمن الجبّار، وجعلت إخلاصها في ذلك تقرّباً الى الله.
رعى الله دولتنا الفتيّة الأبيّة، التي تجردت أعمالها الخيّرة من كل عرض وغرض، فكان غايتها أن تكون كلمة الله هي العليا، وألّا يرفع شعار غير التلبية( لبّيك اللهم لبّيك) وألّا يُثار نداء إلا التكبير: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد، وهي -أي الدولة رعاها الله- تدرك أن الحج لا يستقيم إلّا بنبذ الأهواء، حتى يتفرغ الحجاج إلى الوقوف والدعاء بإخلاص لله الواحد الأحد الفرد الصمد:
 إلهي لا تعذّبني فإنّي          **     مقرٌّ بالذي قد كان منّي
فمالي حيلة إلّا رجائي         **     بعفوك إن عفوتَ وحسن ظنّي
وكم من زلّةٍ لي في الخطايا   **    صَفَحْتَ وأنت ذو فضلٍ ومنٍّ
إذا فكّرت في ندمي عليها      **   عضضْتُ أناملي وقرعتُ سنّي
أهيم بزهرة الدنيا جنونا        **   وأقطع طول عمري بالتمنّي
ولو أنّي صدقت الزّهد عنها    **   قلبت لأجلها ظهر المجنّ
يظنّ الناس بي خيرا وإنّي      **   لشرّ الناس إن لم تعف عنّي
إنها -والحق يُقال- استقامة ضمير يدعو إلى نقاء البواعث، وإخلاص النية، والتوجه إلى العزيز الحكيم بالدعاء والعبادة، دونما خلط أو تخليط، وبهذا تقف الدولة بحزم وقوة حائلاً دون أولئك الذين يرصدون رياح المنافع والأهواء، ليحصدوا من ذلك الموقف العظيم  نقاط  امتياز :
إن الدولة، وفقها الله، بعلمها وجهدها وإخلاصها وبذْلها أرادت أن تكون كل خطوة يخطوها الحاج، بل وكل خلجة من خلجات نفسه موصولة بالله العلي القدير، فهم، أي الحُجاج، جاؤوا من كل فجٍّ عميق، ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات.
رعى الله دولتنا التي امتدَّ خيرها للناس كافة، أفاضت بالنّعم فوصلت جنبات الأرض على ابتعاد أقطارها، ورغم مواقف النكران ، إلا أنّها أغضت حياءً، وترفّعت كرماً، وواصلت عطاءها وهي  ذات قدرة واقتدار ، لم تُعاتبْ ولها الحق أن تُعاتب، ولها في مواطن القول إن شاءت مساحة كبيرة، وآثرت أن يكون لها في مواطن الفعل المساحة الكبيرة. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
أمّا وقد أتم الحُجاج -والحمدلله- حجّهم وأدوا مناسكهم فاسمحوا لي أن أقول : يا أهل الشام شامكم، ويا أهل اليمن يمنكم، أقولها وأنا المواطن، قبل أن تقولها الجهة المختصة، أقولها وأرجو أن يقولها كل مواطن مخلص قولاً وعملاً، فلا نُتيح العمل لغير من صُرِّح له بذلك، ولا نُوفِّر المأوى لمن يخالف أنظمتنا، ولا نُتيح العيش بيننا للمتخلّف والمُخالف، والمواطن يجب أن يكون عونا وعينا: عونا في عدم تشغيل الأجانب المُخالفين، وعينا في إبلاغ الجهات المختصة عمّا يعلم ويعرف، فالدولة، أي دولة، أملها تضافر المواطنين الذين تسهر على رعايتهم وتحقيق مصالحهم، وتوفير سبل العيش الكريم لهم.
وفق الله  حكومة خادم الحرمين الشريفين في أعمالها الخيّرة، وجعلها موئلا وملاذا.. آمين آمين..
من عذب الكلام للشاعر أحمد شوقي:
لك الدين يارب الحجيج جمعتهم      **      لبيتٍ طهور الساح والعرصات
أرى أصنافاومن كل بقعةٍ              **      إليك انتهوا من غربةٍ وشتات
تساووا فلا الأنساب فيها تفاوت      **     لديك ولا الأقدار مختلفات
ويارب هل تغني عن العبد حجةٌ      **     وفي العمر ما فيه من الهفوات
نشرت في جريدة عكاظ   العدد ١١٥٥٥ السبت 14/12/1418 هـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق