بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 18 يناير 1990

الصوت المكسور (مقال)

لكل حركة في الوجود نغم مميز ومتميز، كانت هذه العبارة مجمل ما يردده صديق لي، يتعشق النغم هواية لا غواية، كنت واياه في عصر الشباب نختلف إلى القديرة، ونقتعد قهوة القبوري عصير كل يوم، حيث ضفة وادي شرب. وجنوبيه ثنية جبال النمار التي تصعد فيها السيارات متجهة للطائف ويسمع لسيارات اللوري صوت كأنما تئن اثناء صعودها ، فاذا سمع صاحبي الانين (( انين السيارات اثناء صعودها في تلك الثنية )) سكت وانصت هنيهة ثم قال: (جاركا).. ومرة اخرى يقول (بنجكا) فاذا سألته قال :  ( لكل حركة في الوجود نغم ...الخ ) وبدأت انذاك انصت لانغام الشعر. واتحسس جرسه، واطرب لموسيقاه، فالشعر جرس وموسيقى ، اقول ما اقول توطئة لترجمة شعوري اثر ماقرأته في جريدة ( الرياض) العدد (٧٨٦٩) الصادر يوم الاثنين ١١ / ٦ / ١٤١٠ هـ للاستاذ الاديب الكاتب محمد رضا نصرالله في عموده (أصوات) فقد اورد بيت شعر لأبي نواس، وكتب البيت هكذا
(( قل لمن يدعي في العلم معرفة          حفظت شيئا وغابت عنك اشياء))
والغريب أن هذا البيت أورده بصيغته هذه في نهاية مقالته ، وكأنما يصر على الخطأ في نقله.. وتذكرت ما أورده صاحب نفح الطيب من استقبال أبي علي القالي ((صاحب الأمالي)) عندما وفد من بغداد إلى الأندلس ، واستقبل استقبالاً عظيماً يليق بأدبه وعلمه وكان من ضمن المستقبلين ابن رفاعه الالبيري وهو من اهل الادب والمعرفة فتذكر الجمع في طريقهم الأدب وتناشدوا الأشعار فأنشد أبو علي القالي قول الشاعر (أعرافها لأيدينا مناديل) فأنكر ذلك ابن رفاعة، واستثبت من ابي علي القالي، وفي كلتا المرتين أنشده (أعرفها) رغم أن صحة عجز البيت ((اعرافهن لأيدينا مناديل))
فلوى ابن رفاعة عنان فرسه منصرفا وقال : ((مع هذا يوفد على أمير المؤمنين ، ونتجشم الرحلة لتعظيمه وهو لايقيم وزن بيت مشهور بين الناس، والله لا تبعته خطوة ، وانصرف عن الجماعة)).
أوردت ما أوردت تدليلا ان معرفة العروض قد يخلو منها أكابر الأدباء وأهل المعرفة مثل أبي علي القالي رغم علو كعبه في الأدب .. ولكن رغم هذا قلت : سامحك الله يانصرالله. ولما رددت ذلك وجدت ان عبارتي مموسقة تدرج في نطاق التفعيلات وصحة البيت الذي أورده الاستاذ محمد رضا نصرالله كالآتي:
((فقل لمن يدعي في العلم معرفة
                حفظت شيئا وغابت عنك أشياء))
وهو من قصيدته التي بدأها بقوله:
((دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
                   وداوني بالتي كانت هي الداء))
وروي أن أبا نواس صحب في صباه إبراهيم النظام ثم افترقا، وكان النظام خلال ذلك قد اعتنق مبادىء المعتزله، فلما التقيا بعد ذلك. دعا أبا نواس لاعتناق مذهبه، ولامه على شرب الخمر، ومجاهرته بالعصيان، وخوفه من عاقبة ارتكابه للكبائر، لأن مرتكب الكبيرة في رأي المعتزله مخلد في النار ، فعرض به في هذه القصيدة وقال:
((فقل لمن يدعى في العلم معرفة
                 حفظت شيئا وغابت عنك أشياء
لاتحظر العفو إن كنت أمراً حرجا
                      فإن حظركه في الدين ازراء))
والأبيات من بحر البسيط .. وان كانت كلمة ((حظركه)) ثقيلة في السمع غير مقبولة للطبع .. ولأبي نواس ابيات من جميل الشعر ورائعه منها قوله في الزهد
((من لم يكن لله متّهماً
                     لم يمس محتاجا إلى أحد))
وقوله:
((وما الناس إلا هالك وابن هالك
                 وذو نسب في الهالكين عريق
اذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت
                  له عن عدو في ثياب صديق))
ومن روائع الابتهالات قوله:
((الهنا ما أعدلك
         مليك كل من ملك
لبيك قد لبيت لك
           وكل من اهل لك
والملك لاشريك لك
        ماخاب عبد سألك
أنت له حيث سلك
         لولاك يارب هلك
لبيك أن الحمد لك
   والملك لا شريك لك
والليل لما أن حلك
والسابحات في الفلك
على مجاري المنسلك
     يامخطئا ما أغفلك
عجل وبادر أجلك
    واختم بخير عملك))
اللهم اختم بالصالحات اعمالنا
جريدة الرياض
الخميس ٢١ جمادى الآخرة ١٤١٠هـ
١٨ / يناير / ١٩٩٠م
العدد ٧٨٧٩ السنة السادسة والعشرين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق