بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 6 مارس 2006

مؤشّر الأسهم

ترفّقْ أيا من ناح عند المؤشِّر 
             وأبكى عيوناً للمكاسب تجتلي
                       
رنت للمواشي أمّلت بارتفاعه 
             فجاء بخفضٍ طار منه تعقّلي 
                      
وعرّج للأسمنت يبني صروحَهُ
             فعاج إلى مأوى واسوأ منزلِ
                     
وقال لجينٌ فيه للحظّ مطمعٌ
           فعاد بخظٍ حطّه السّيل من علِ
                   
أرأيتك يا من تبتغي الفوز والعُلا
            فدعْ أسهماً مثل القمار المرنَّلِ 
                     
عليك بتقوى الله في كل مقصدٍ 
          وسبّح بحمد الله واشكر وحوقلِ                  

السبت، 5 نوفمبر 2005

مناجاة

أُناجيك-يا حلوتي- بالشِّعر
  وأرسم فيه بديع الصور
أرنّقه بالقوام الجميل
زها وازدهَى بالمحيّا النَّضِرْ
وأزهو بنورك يجلو الظّلام
وأقبس منه السّنا والسِّحر
أُحسِّك في همسات الحروف
     أُحسّك في وشوشات السّحر
أُحسِّك في ومضات النجوم
أُحسَّك  في شرفات القمر
أحسِّك دفئاً سرى بالضلوع
أُحسِّك نوراً يُضيء العُمُر
أُحسِّك في صدحات الطيور
أُحسِّك في نغمات الوتر
تقولين: ويحك ما ترعوي؟
      وفي القسمات رسوم الدهر
فهذا شحوب وهذي كُلُوم
        وهذي بقايا العنا والسّهر
فيا ربة الحسن لا تعتبي
فطيب الثمار تُهيج النّظر
فإن كنت شيخاً ففي مهجتي
شواهد من نزعات البشر
وفي القلب من عزمات الشّباب
     أحاسيس لم تكترث بالكبر
رأيتك والسّحر في مقلتيك
     وعذب اللّمَى وجمال النّحر
وخصرا ينوء بردفٍ ثقيل
         ورمانتين زهت بالدّرر
وقداً تميّس  مــا  شــابــه
          معيب من الطول أو من قصر
تأوّد في  رقــةٍ وازدهَى
        وتاه وزان بطيب الثّمر
فلا تعجبي إن سبيت العقول
 ولا تعجبي إن قدحت الشّرر


٣ / ١٠ / ١٤٢٦ هـ


السبت، 4 يونيو 2005

الـثّعْـلـبُ الـمُـتَـسَـلِّـق



نــُـبـِّـئْــتُ أن ثـَـعـْـلَـبـآ    
طـــويـــلَ ذيْـــلٍ أرْبَـــدَهْ "1"
مـــن خُــبـْـثــهِ ومَـكْــرهِ   
ثـَوَى بـِـــــدارِ مَــأْسَـــدَهْ
مُـــرافـِـقــآ لـلأُسْـدِ، والــ
ـ  أُســود فــيــه مُــزْهِــدَهْ
أوَى إلـــى عـَــريـنـِـهــمْ      
بـِــلــبْـدةٍ مُــجـــعَّـــدَهْ
مُـــقــلّـدآ زئـيـرَهـــــمْ   
بــنَــبـْــرةٍ مُــــجَـــدّدَهْ
وظـنّ – مــن غـَــفـْلـتــه -   
أن الـــزَّئــيــــرَ أسّــــدَهْ
مــكــوّنــآ مــن الـدّجـــا   
ج،   فِـــرْقـــةً مُـــجَـنـّـدَهْ
وصــدّق الــمـغـْـرورُ مـــا     
قـَــلّـــدَهُ ولــــبـّــــدَه ْ"2"
يــخْــتــالُ فــي مَـسـيـرِه    
كــأنـّـــه ابْــن كَــلَـــدَه ْ"3"
بــخــطـْـوةٍ وئِــــيــدةٍ      
ونـَـظْــرةٍ مُـــبـــلّــــدَهْ
وزادَ فــــي غُــــــــرورِه   
مـُــغالـيــآ فـي الــبَـغْــدَدَهْ
 تـــعَـــوّد الــسُّـؤال إلـْــ
ـحـافــآ وزاد فــي الــكَــدَه ْ"4"
فــعَـيـْــنـُـه مـن طَــمِـعٍ     
تـــرْصُــدُ كُــلّ مَـــرْصَــدَهْ
يـَــشــومُ كـــلّ بـــارقٍ      
حــتـى  يَــنــالَ مــقْـصَــدَهْ
إذا رأَى ذا ثَـــــــــــرْوةٍ     
هـــدْهَـــدَهُ   ومَـــجّــــدَهْ
وســــارَ فــي ركـــابـِـهِ      
مُـــــــردِّدآ  مــــــا  ردّدَهْ
أطْـــراهُ فــي حَــديــثِــه     
وفــاضَ فــيـه  مــحْــمَـــدَهْ
وزادَ فـــــــــــي  وِدادِه    
كـــأنــّـه  قـــد ولـّــــدَهْ
ســارَ  عـلـى  مِــنْـوالِـــهِ      
وسَـمْــتـِـــه  وقَـــلـّـــدَهْ
يــقــولُ فــي حَــضْــرَتـهِ    
طَـــرائِــفــآ مُــــجَـــوّدهْ
لـيُـضْـحَــكَ الــثـّريَّ صــا    
حــــبِ الــنـّـوالِ ســيـّـدَهْ
طـُرفــتُــه قـَـديـــمًـــةٌ    
بــاهِــتـَـةٌ مُــبـَــــــرّدَهْ
مــثـل الــصّـقــيـعِ بــاردآ    
فـي  لــيْـلـةٍ  مُـجـَــمّـــدَه
إنْ شـاركَ الـحُـــــضـورَ فـي    
كــلامِــهـمْ مــا  أبـْــــرَدَهْ
وإن  تـغَـنّــى  بـيْــنــهــمْ   
خِــلْـتَ  سـهـامـآ  مُـــرْصـدَهْ
فــصـوْتـُه مـثـل الــفَـحــيـ
ـحِ ، فــي لــيــالٍ مُــرْعِــدَهْ
مـُسْـتـكــبِـرٌ فــي ذاتـِـهِ      
كـــأنّ  ربــّي أخْــــلَـــدَهْ
لاأكْــثــرَ الــرّحـمـنُ مـن     
أمْـــثــالـِـه   وأبْــعـَـــدَهْ
نــارٌ عـلـيــه مُــؤْصَــده ْ    
فــي الــعَـمِـد  الــمُــمَـدَّدَهْ


         الرياض  27 ربيع الثاني 1426
----------------------------------------------------------------------------------------
الهامش : "1"  أربده : نقول أربد من الربْده وهي الغُبْرة،والربدة في النعام سوادٌ مختلطٌ
                 وسُمي الظليم بالأربد لسواده المختلط ،   "لسان العرب مادة ربد "
         "2"  لبده : لبد شعره أي جمعه وأطاله ، والمعنى أن هذا المتثعلب أطال شعره
                             ليشبه الأسد ، وقلد زئيره ظنآ أن ذلك سيجعله أسدآ
                                   " لسان العرب مادة لبد
                "3" ابن كلده : هو الحارث بن كلده الثقفي ،طبيب العرب في الجاهلية وحكيمها
                                                الفارس الشاعر ، أحد نوابغ العرب في الجاهلية ، وفد على كسرى
                                                وناظره حتى قال فيه : لله دركَ من إعرابي، لقد أعطيت علمآ
                                                وخصصته بفطنة وفهم . " أعلام ثقيف للأستاذ فالح بن ذياب العتيبي .
                "4" الكَده : الإستعطاء بإلحاح والإلحاف في السؤال والمسألة   " لسان العرب مادة كدد .

الجمعة، 3 يونيو 2005

المودّه لا تمحوها الرّياح


قرأتُ قوْل قائلٍ  : " جرحوا قلبي وحبُّهمْ يُذهبُ ألم الجراحة ، وطرفوا عيني وهمْ يزدادون فيها ملاحة " فحاولتُ أن أنسج على منْوالها ، فكانتْ هذه الأبياتْ
أرْسِــلْ ســلامـي بـالـمـسـا والـصّـبـاحِ       **       واخُــصْ مــنْ هُــو سـاكـنٍ فـي عـــيـونـي
واوْفـي بــحــق الـود وارْجـي الــفــلاحِ      **       واقــدِّم الــواجِــبْ ولــو هُــمْ جَـــفُـــوْنـــي

إن قـدَّرونـي،، قـلْـت حـظِّـي وْنَـجـي         **        ولـهـمْ كــبــيــر الـعُــذْر لـو اسْــفــهــونــي
أخْـفِـضْ لـهـمْ بالـذُّل صـوتي وْجـنـاحـي     **       وارْعَـى مـسـاكــنْـهـمْ بــداخِــل جُــفــونــي
وان بــادَروْني الـصّـد أكْـبـحْ جِــمــاحي     **       وعـيـن الـرّضـا تَـشْـفـي كـثـيـر الـطُّـعـونِ
وادمـحْ خَـطـاهـمْ واسْـتَهِـيـن بْـجـراحـي    **        واحــوط ذكْــراهــمْ بــقــلْــبٍ حــــنـــــونِ
يـا عـنْـك مـاتَـمْـحـي الـمَـودَّه ريــاحِ        **       ولا يــزيــل الـــحُـــب كُــثْــر الــظُــنــون
زَرْع الـمـحـبّـه يـنْـتِـشـي بـالـسَّـمـاحِ       **       والــرّفْــق مــذكــورٍ بــشــرْح الــمُــتُــونِ
                         

الجمعة، 25 مارس 2005

سهرة مع القمر


سهرت مع القمر - ياحلوتي - في ليلة البارح
ونوره يغمر الأكوان ياسبحان من ضوّاه
وحوله موكب النّجمات في زفّه وهو سارح
تعالى اللي خلقه وصوّره سبحان من سوّاه
شبيهك في الحلا اسهرني غمرني بالهوى الجارح
ولا حَجبت عليّه طلّة انواره ولا نجواه
ذكرتك يوم شفت البدر في سمت السما شارح
تمنّيتك على طعسٍ حمر نسري على مسراه
ألا يا عذبة الأرياق .. ذوقه عيّا لا يبارح
تعالي نشهد العالم  وننسى من هوانا الآه
تعالي على الملا نبدي غرام وشوق ونصارح
ونرسم فوق ذرّات الرمل مابا الهوى صغناه
تعالي - يابعد روحي- نعيد القول ونطارح
نوثّق عقدنا الدّايم على سنّة رسول الله


١٥ / صفر / ١٤٢٦


السبت، 29 أبريل 2000

عاشق الكبريتة (مقال)



كانت المنازل في مكة المكرمة قريبة، يوم كانت القلوب قريبة، وكانت شوارعها أزقة ضيّقة لا تشوّهها السيارات، ولا تعكّرها المركبات، وكان الحرم المكي هو البغية للمصلّي والطالب والمنتظم في حلقات العلم، كانت الحياة في مكة هيّنة ليّنة، القلوب قريبة، والمشاعر متقاربة، والناس في تواد وصلة وتراحم، قبل أن تشوّه الفلوس النفوس، كان صاحبنا يدرس في مدرسة تحضير البعثات، ومنزله في طلعة الفُلق ، وفي صباح كل يوم ينزل من منزله إلى برحة القرارة، ومن ثَمَّ إلى المسعى الذي كان آنذاك يغصُّ بالمحلات، والدكاكين، والسابلة، ومن ثم إلى القشاشية  حيث مدرسته، وأحسبه عصراً ينزل من نفس الطريق - إن لم يكن بعضه - ليذاكر دروسه في الحرم الشريف في حصوة باب زيادة، كان صاحبنا طويل القامة وسيم الطلعة ولم يكن بديناً مترهّلاً ولا نحيلاً مزرياً، بل كان قوامه جميلاً ملحوظاً، وكان الفتى يعرف ذلك عن نفسه، ويدرك ذلك في نفسه، وكانت حياته رتيبة تسير على منوالٍ واحد، لا يختلف طابعها، ولا يتغيّر نظامها في يوم عن الآخر، الصباح في المدرسة، والعصر والمغرب في الحرم المكي الشريف، ثم يؤوب إلى منزله بعيد المغرب، وهكذا دواليك.
وكانت منازل مكة تضع على الشبابيك ستارة " مدّة " تسمى الكبريتة، ومن خِصاصِها يُتاح لأهل المنزل من النساء مسارقة النظر إلى الطريق، لترقّب عودة الزوج، يوم كان يُترقّب عودته، وقبل أن تتغيّر الأدوار، كان صاحبنا الفتى في طريقه المعتاد الذي يمشيه كل يوم، وليس من جديد، حتى كان يوماً لاحظ أثناء سيره منزلاً في مواجهة الطريق تهتزُّ فيه الكبريتة وتخفِق، ومعنى ذلك أن وراء الكبريتة إمرأة تخالس النظر إلى الطريق، لم يلق آنئذ للموضوع بالاً، ولكنه لاحظ تكرار اهتزاز الكبريتة عند مروره وروحاته إلى المدرسة أو إلى الحرم الشريف، وظن صاحبنا الفتى - وحق له أن يظن فله من وسامته وميعةِ صباه ما يخفق له القلب وتهتز له الكبريتة - أنه المعنيُّ باختلاج مشاعر الكبريتة، كان الفتى في مَيْعة صباه، وفورة فتوته، يهوّم مع الخيال، ويبحر مع التخيّل، ويحلّق مع القصص الوجدانية، ويعيش في أجوائها وكأنه أحد شخوص الرواية إن لم يكن فارسها.
أصبحت الكبريتة لصاحبنا غايةً وهدفاً، يسترق إليها النظر ويخالسها الرؤية، وانعكس ذلك على هندامه، أصبحت ثيابه محل عنايته واهتمامه، يتأكّد من نصاعة الثوب، ونظافةغترته، وأكثر سيره عبر ذلك الطريق (( طريق الكبريتة ))، واختلق الذرائع، وخلق الحجج، ليزيد من مروره في ذلك الطريق، ومواجهة ذلك المنزل، وأصبح الفتى زبوناً لدكان قريب أمام المنزل، ليتاح له مسارقة النظر إلى تلك العروب  التي هزّتْ وجدانه، وحرّكتْ مشاعره ، وعاش صاحبنا مع الكبريتة، يخفق قلبه إذا اقترب من الموقع، وتتباطأ خطواته عند الاقتراب، ويُرعد في سمعه دفق مشاعره، وفي فصله ومنزله واثناء مذاكرته، كان يختلس الأوقات التي يخلو فيها مع الخيال، خيال الكبريتة التي حوته واحتوته، وعاش فيها وبها ومعها أجمل الساعات وأبدع اللحظات، يحضن مشاعره، ويحتضن تخيّلاته، حتى كان يوماً تحطم الخيال، وانكفأت اللهفة، وتراجعت أو بالأحرى اندحرت العاطفة، وانحسر الشوق والتشوّق... خرج صاحبنا قبيل العصر من منزله يبغي الحرم الشريف، وعندما اقترب من موقع الكبريتة، فز خفوقه، وأرعدت مشاعره، وتباطأت خطواته، وتركزت نظراته على الكبريتة، التي تجاوبت واهتزت وخفقت، وتزايدت خفقتها، واشتد اهتزازها، وأطل من خلفها رأس الأثيرة الحبيبة، وليته لم يظهر، فالأثيرة الحبيبة التي هزّتْ وجدانه شهراً، وتغلغلتْ في مشاعره دهراً، لم تكن إلا تيْساً أعـزّكم الله.


----------------------------
الهامش

<1> الفلق : حي من أحياء مكة المكرمة.
<2> القشاشية : حي من أحياء مكة الكرمة، واندثر حي القشاشية الآن ولم يبق له وجود بعد توسعة الحرم المكي الشريف.
<3> الكبريتة : ستارة من عيدان رهيفة، تضم إلى بعضها وتخاط من الأطراف والوسط وتوضع على النوافذ من الخارج، وهي معروفة في الحجاز، وكانت تستعمل في الستينيات والسبعينيات.
<4> العروب : المتحببة إلى زوجها والعاشقة له، قال سعيد بن جبير عن ابن عباس في تفسيره قوله تعالى ( عُرباً أترابا ) يعني متحببات إلى ازواجهن... (تفسيرابن كثير).

جريدة عكاظ العدد ١٢٢٩٩ اليوم السبت الموافق ٢٤ محرم ١٤٢١ هـ 

السبت، 5 ديسمبر 1998

من يفعل الخير لا يَعُدم جَوازيَهُ(مقال)

قامت الدولة العباسية على العنصر غير العربي، واعتمدت على الأعاجم في تشييد ملكها، وإحكام قبضتها. وكان العلويون مصدر شك وإزعاجٍ لخلفاء بني العباس، فها هو عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، يُسجن في عهد أبي جعفر المنصور ويموت في حبسه عام ١٥٤ هجرية .. وقَتل ابناءه محمد وإبراهيم إبني عبدالله بن الحسن، وسجن أخاهما موسى وجلده بالسياط، وغيرهم وغيرهم ممن كانت تحدثّهم أنفسهم بالانتفاضة على سلطة بني العباس، وكان الشاعر محمد بن صالح بن عبدالله بن موسى الحسني حفيد هؤلاء الذين لاقوا عنتاً وقتلاً وتشريداً وحبساً، فنشأ الشاعر على كُره بني العباس الذين نكّلوا بعائلته فشبّ حانقاً حاقداً عليهم، ثم أقدم على الثورة عليهم، فهاجمته جيوش الدولة بقيادة القائد الأشرونسي (( أبي الساج )) وقبض عليه وأثقله بالقيود. وزجته الدولة في سجنها  ب (( سر من رأى )) وبقي الشاعر في السجن ثلاث سنوات عجاف، وشعره يردّده الخاصة والعامة ، فهو شاعرمطبوع صالح الشعر كما يقول الأصفهاني، ومن شعراء أهل بيته المتقدمين، وشعره ينمُّ عن حزن دفين ولوعة كامنة، وكان شعره سبباً في إطلاق سراحه من السجن، على أن تُحدّد إقامته في (( سرمن رأى)) ،فقد سمع الخليفة المتوكل إحدى قصائد الشاعر، واستحسنها، وسأل عن قائلها فقيل محمد بن صالح الحسيني، ثم انفسح الحديث عنه من خاصة المتوكل الذين كانوا يعرفون الشاعر، فكلّموا الخليفة حتى أمر بإطلاق سراحه المشروط بالإقامة الجبرية في " سر من رأى " وهكذا تمكّن الشاعر من الخروج من السجن. وقويت صلته ببعض رجال الدولة مثل إبراهيم بن المدبر الكاتب وتزوّج بحمدونه بنت موسى بن أبي خالد، وهي التي كان يُشبّب بها في شعره.
ويورد الأصفهاني في الأغاني خبر زواج محمد بن صالح الحسيني بعد إطلاق سراحه برواية إبراهيم بن المدبر الكاتب قال : جاءني  في يوم محمد بن صالح الحسيني العلوي بعد أن أطلق من السجن ، وقال : إني أريد المقام عندك اليوم لأبثّك من أمري شيئاً، فصرفت من كان يحضرني وخلوت معه، وبعد أن أكلنا قال لي : أعلمك أني خرجت سنة كذا وكذا ، ومعي أصحابي على القافلة الفلانية، فقاتلنا من كان فيها فهزمناهم وملكنا القافلة ، فبينا أنا أحوزها وأنيخ الجمال ، إذ طلعت امرأة من العمارية ما رأيت قط أحسن منها وجهاً ولا أحلى منطقاً. فقالت يافتى إن رأيت أن تدعو لي الشريف المتولي أمر هذا الجيش؟ فقلتُ : قد رأيته وسمع كلامك ، فقالت : أأنت هو؟ قلت : نعم أنا هو فقالت : أنا حمدونة بنت موسى بن أبي خالد الحري، ولأبي محل من سلطانه، ولنا نعمة إن كنت ممن سمع بها فقد كفاك ما سمعت، وإن كنت لم تسمع فسل عنها غيري، ووالله لا استأثرت عنك بشيء أملكه، ولك بذلك عهدالله وميثاقه علي، وما أسألك إلا أن تصونني وتسترني وهذه ألف دينار معي لنفقتي، فخذها حلالاً، وهذه حلي أغلى من خمسمائة دينار فخذها، وضمني ما شئت بعده آخذه لك من تجار المدينة أو مكة أو أهل الموسم، فليس منهم أحد يمنعني شيئاً أطلبه، وادفع عني واحمني من أصحابك، ومن عار يلحقني. فوقع قولها في قلبي موقعاً عظيماً فقلت لها : قد وهب الله لك مالك وجاهك وحالك، ووهب لك القافلة بجميع مافيها، ثم خرجت فناديت في أصحابي فاجتمعوا، وقلت : إني قد أجرت هذه القافلة وأهلها وخفرتها وحميتها، ولها ذمة الله وذمة رسوله وذمتي، فمن أخذ منها خيطاً أو عقالاً فقد آذنته بحرب . فانصرفوا معي وانصرفت . فلما أُخذتُ وحُبستُ فبينا أنا ذات يوم في محبسي إذ جاءني السجان وقال لي  :إن بالباب امرأتين تزعمان أنهما من أهلك وقد حُظر علي أن يدخل عليك أحد، وقد أذنت لهما وهما في الدهليز ، فاخرج إليهما إن شئت، فقلت لعلهما من ولد أبي أو بعض نساء أهلي ، فخرجت إليهما فإذا بصاحبتي، فلما رأتني بكت لما رأت من تغيّر خلقي، وثقل حديدي، ثم قالت لي : فداك أبي وأمي، والله لو استطعت أن أقيك، مما أنت فيه بنفسي وأهلي لفعلت وكنت بذلك مني مُحقاً..ووالله لا تركت المعاونة لك والسعي في حاجتك وخلاصك بكل حيلة ومال وشفاعة وهذه دنانير وثياب وطيب فاستعن بها على موضعك، ورسولي يأتيك في كل يوم بما يصلحك حتى يفرج الله عنك. وأخرجت لي كسوة وطيباً ومائتي دينار ، وكان رسولها يأتيني كل يوم بطعام نظيف، ويتواصل برّها بالسجّان ، فلا يمتنع من كل شيء أريده .. فمنّ الله بخلاصي ثم راسلتها فخطبتها فقالت أما من جهتي فأنا لك تابعة مطيعة، والأمر إلى أبي. فأتيته فخطبتها إليه فردّني ، وقال : ما كنت لأحقّق عليها ما قد شاع في الناس عنك من أمرها، وقد صيّرتنا فضيحة، فقمت من عنده، وقلت في ذلك :
رموني وإياها بشنعاء هم بها    **   أحق أدال الله منهم فعجّلا
بأمر تركناه وربّ محمد           **   عياناً فإما عِفّة أو تجمّلا
فقلت له : إن عيسى صنيعة أخي، وأنا أكفيك أمره فلمّا كان من الغد لقيت موسى في منزله، وقلت له : قد جئتك في حاجة لي، فقال : مقضيّة فقلت له : قد جئتك خاطباً إليك ابنتك فقال : قد أجبتك قلت إني خطبتها على من هو خير منّي أباً وأماً وأشرف لك صهراً ومتصلاً، محمد بن صالح العلوي، فقال لي : ياسيدي هذا رجل قد لحقنا بسببه ظِنّه وقيلت فينا أقوال فقلت : أفليست باطله؟ قال : بلى والحمدلله قلت فكأنها لم تُقل، وإذا وقع النكاح زال كل قول وتشنيع ولم أزل أرفق به حتى أجاب وبعثت إلى محمد بن صالح فأحضرته، وما برحت حتى زوّجته وسُقْتُ الصداق عنه، وقال محمد بن صالح الحسني يمدح إبراهيم بن المدبر:
خطبت إلى عيسى بن موسى فردّني     **    فلله والي حرّة وعليقها
لقد ردّني موسى ويعلم أنني               **    سليل بنات المصطفى وعريقها
وأن لنا بعد الولادة نبعة                   **     نبي الإله صنوها وشقيقها
فلما أبى بخلآ بها وتمنعآ                  **     وصيّرني ذا خلة لا أطيقها
تداركني المرء الذي لم يزل له           **     من المكرمات رحبها وطليقها
سميّ خليل الله وابن وليه                 **     وحمّال أعباء العلى وطريقها
وزوّجها والمنّ عندي لغيره              **     فيا بيعة وفّتني الريح سوقها
ويانعمة لابن المّدبر عندنا                **     يجدّ على كرّ الزمان أنيقها
هذه صنائع المعروف والمروءة، استجاب محمد بن صالح العلوي لرجاء امرأة شريفة عفيفة، لا ناصر لها آنذاك ولا معين ، فلما هزّته وجدته شهماً، ولما استنخته وجدته شريفاً، ولما حركته وجدته كريماً، وهب لها قافلتها وحماها وخفرها، وكانت هي أي حمدونة، على وفاء يذكر ويشكر ولئن قيل في الأمثال عن فكيهة التي حمت السليك بن السلكة فقيل أوفى من فكيهة، ولئن قيل عن أم جميل الدوسية التي أجارت هشام بن الوليد المخزومي، ومنعت قومها عنه  فإن حمدونة عندما علمتْ بحبس محمد بن صالح العلوي،  وافته في حبسه، وتلطفت عند السجان حتى لاقته، ووالت برها بالسجان حتى لا يمتنع عن العلوي المسجون ما يريد، كل ذلك يصب في صالح خلقها وطيب عنصرها ووفائها، وهذه قصص تبيّن ما يتمتع به العربي من شهامة ومروءة ومعروف وكرم وشجاعة، وهي خلال ينبغي أن نزكّيها ونردّدها ونستزيد من ترديدها، لتكون قدوة لابنائنا وناشئتنا:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه      **    لا يذهب العرف بين الله والنّاس.
جريدة عكاظ العدد ١١٧٩٣
السنة الاربعون تاريخ  16/8/1419 هـ   الموافق 5/12/1998م