بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 5 ديسمبر 1998

من يفعل الخير لا يَعُدم جَوازيَهُ(مقال)

قامت الدولة العباسية على العنصر غير العربي، واعتمدت على الأعاجم في تشييد ملكها، وإحكام قبضتها. وكان العلويون مصدر شك وإزعاجٍ لخلفاء بني العباس، فها هو عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، يُسجن في عهد أبي جعفر المنصور ويموت في حبسه عام ١٥٤ هجرية .. وقَتل ابناءه محمد وإبراهيم إبني عبدالله بن الحسن، وسجن أخاهما موسى وجلده بالسياط، وغيرهم وغيرهم ممن كانت تحدثّهم أنفسهم بالانتفاضة على سلطة بني العباس، وكان الشاعر محمد بن صالح بن عبدالله بن موسى الحسني حفيد هؤلاء الذين لاقوا عنتاً وقتلاً وتشريداً وحبساً، فنشأ الشاعر على كُره بني العباس الذين نكّلوا بعائلته فشبّ حانقاً حاقداً عليهم، ثم أقدم على الثورة عليهم، فهاجمته جيوش الدولة بقيادة القائد الأشرونسي (( أبي الساج )) وقبض عليه وأثقله بالقيود. وزجته الدولة في سجنها  ب (( سر من رأى )) وبقي الشاعر في السجن ثلاث سنوات عجاف، وشعره يردّده الخاصة والعامة ، فهو شاعرمطبوع صالح الشعر كما يقول الأصفهاني، ومن شعراء أهل بيته المتقدمين، وشعره ينمُّ عن حزن دفين ولوعة كامنة، وكان شعره سبباً في إطلاق سراحه من السجن، على أن تُحدّد إقامته في (( سرمن رأى)) ،فقد سمع الخليفة المتوكل إحدى قصائد الشاعر، واستحسنها، وسأل عن قائلها فقيل محمد بن صالح الحسيني، ثم انفسح الحديث عنه من خاصة المتوكل الذين كانوا يعرفون الشاعر، فكلّموا الخليفة حتى أمر بإطلاق سراحه المشروط بالإقامة الجبرية في " سر من رأى " وهكذا تمكّن الشاعر من الخروج من السجن. وقويت صلته ببعض رجال الدولة مثل إبراهيم بن المدبر الكاتب وتزوّج بحمدونه بنت موسى بن أبي خالد، وهي التي كان يُشبّب بها في شعره.
ويورد الأصفهاني في الأغاني خبر زواج محمد بن صالح الحسيني بعد إطلاق سراحه برواية إبراهيم بن المدبر الكاتب قال : جاءني  في يوم محمد بن صالح الحسيني العلوي بعد أن أطلق من السجن ، وقال : إني أريد المقام عندك اليوم لأبثّك من أمري شيئاً، فصرفت من كان يحضرني وخلوت معه، وبعد أن أكلنا قال لي : أعلمك أني خرجت سنة كذا وكذا ، ومعي أصحابي على القافلة الفلانية، فقاتلنا من كان فيها فهزمناهم وملكنا القافلة ، فبينا أنا أحوزها وأنيخ الجمال ، إذ طلعت امرأة من العمارية ما رأيت قط أحسن منها وجهاً ولا أحلى منطقاً. فقالت يافتى إن رأيت أن تدعو لي الشريف المتولي أمر هذا الجيش؟ فقلتُ : قد رأيته وسمع كلامك ، فقالت : أأنت هو؟ قلت : نعم أنا هو فقالت : أنا حمدونة بنت موسى بن أبي خالد الحري، ولأبي محل من سلطانه، ولنا نعمة إن كنت ممن سمع بها فقد كفاك ما سمعت، وإن كنت لم تسمع فسل عنها غيري، ووالله لا استأثرت عنك بشيء أملكه، ولك بذلك عهدالله وميثاقه علي، وما أسألك إلا أن تصونني وتسترني وهذه ألف دينار معي لنفقتي، فخذها حلالاً، وهذه حلي أغلى من خمسمائة دينار فخذها، وضمني ما شئت بعده آخذه لك من تجار المدينة أو مكة أو أهل الموسم، فليس منهم أحد يمنعني شيئاً أطلبه، وادفع عني واحمني من أصحابك، ومن عار يلحقني. فوقع قولها في قلبي موقعاً عظيماً فقلت لها : قد وهب الله لك مالك وجاهك وحالك، ووهب لك القافلة بجميع مافيها، ثم خرجت فناديت في أصحابي فاجتمعوا، وقلت : إني قد أجرت هذه القافلة وأهلها وخفرتها وحميتها، ولها ذمة الله وذمة رسوله وذمتي، فمن أخذ منها خيطاً أو عقالاً فقد آذنته بحرب . فانصرفوا معي وانصرفت . فلما أُخذتُ وحُبستُ فبينا أنا ذات يوم في محبسي إذ جاءني السجان وقال لي  :إن بالباب امرأتين تزعمان أنهما من أهلك وقد حُظر علي أن يدخل عليك أحد، وقد أذنت لهما وهما في الدهليز ، فاخرج إليهما إن شئت، فقلت لعلهما من ولد أبي أو بعض نساء أهلي ، فخرجت إليهما فإذا بصاحبتي، فلما رأتني بكت لما رأت من تغيّر خلقي، وثقل حديدي، ثم قالت لي : فداك أبي وأمي، والله لو استطعت أن أقيك، مما أنت فيه بنفسي وأهلي لفعلت وكنت بذلك مني مُحقاً..ووالله لا تركت المعاونة لك والسعي في حاجتك وخلاصك بكل حيلة ومال وشفاعة وهذه دنانير وثياب وطيب فاستعن بها على موضعك، ورسولي يأتيك في كل يوم بما يصلحك حتى يفرج الله عنك. وأخرجت لي كسوة وطيباً ومائتي دينار ، وكان رسولها يأتيني كل يوم بطعام نظيف، ويتواصل برّها بالسجّان ، فلا يمتنع من كل شيء أريده .. فمنّ الله بخلاصي ثم راسلتها فخطبتها فقالت أما من جهتي فأنا لك تابعة مطيعة، والأمر إلى أبي. فأتيته فخطبتها إليه فردّني ، وقال : ما كنت لأحقّق عليها ما قد شاع في الناس عنك من أمرها، وقد صيّرتنا فضيحة، فقمت من عنده، وقلت في ذلك :
رموني وإياها بشنعاء هم بها    **   أحق أدال الله منهم فعجّلا
بأمر تركناه وربّ محمد           **   عياناً فإما عِفّة أو تجمّلا
فقلت له : إن عيسى صنيعة أخي، وأنا أكفيك أمره فلمّا كان من الغد لقيت موسى في منزله، وقلت له : قد جئتك في حاجة لي، فقال : مقضيّة فقلت له : قد جئتك خاطباً إليك ابنتك فقال : قد أجبتك قلت إني خطبتها على من هو خير منّي أباً وأماً وأشرف لك صهراً ومتصلاً، محمد بن صالح العلوي، فقال لي : ياسيدي هذا رجل قد لحقنا بسببه ظِنّه وقيلت فينا أقوال فقلت : أفليست باطله؟ قال : بلى والحمدلله قلت فكأنها لم تُقل، وإذا وقع النكاح زال كل قول وتشنيع ولم أزل أرفق به حتى أجاب وبعثت إلى محمد بن صالح فأحضرته، وما برحت حتى زوّجته وسُقْتُ الصداق عنه، وقال محمد بن صالح الحسني يمدح إبراهيم بن المدبر:
خطبت إلى عيسى بن موسى فردّني     **    فلله والي حرّة وعليقها
لقد ردّني موسى ويعلم أنني               **    سليل بنات المصطفى وعريقها
وأن لنا بعد الولادة نبعة                   **     نبي الإله صنوها وشقيقها
فلما أبى بخلآ بها وتمنعآ                  **     وصيّرني ذا خلة لا أطيقها
تداركني المرء الذي لم يزل له           **     من المكرمات رحبها وطليقها
سميّ خليل الله وابن وليه                 **     وحمّال أعباء العلى وطريقها
وزوّجها والمنّ عندي لغيره              **     فيا بيعة وفّتني الريح سوقها
ويانعمة لابن المّدبر عندنا                **     يجدّ على كرّ الزمان أنيقها
هذه صنائع المعروف والمروءة، استجاب محمد بن صالح العلوي لرجاء امرأة شريفة عفيفة، لا ناصر لها آنذاك ولا معين ، فلما هزّته وجدته شهماً، ولما استنخته وجدته شريفاً، ولما حركته وجدته كريماً، وهب لها قافلتها وحماها وخفرها، وكانت هي أي حمدونة، على وفاء يذكر ويشكر ولئن قيل في الأمثال عن فكيهة التي حمت السليك بن السلكة فقيل أوفى من فكيهة، ولئن قيل عن أم جميل الدوسية التي أجارت هشام بن الوليد المخزومي، ومنعت قومها عنه  فإن حمدونة عندما علمتْ بحبس محمد بن صالح العلوي،  وافته في حبسه، وتلطفت عند السجان حتى لاقته، ووالت برها بالسجان حتى لا يمتنع عن العلوي المسجون ما يريد، كل ذلك يصب في صالح خلقها وطيب عنصرها ووفائها، وهذه قصص تبيّن ما يتمتع به العربي من شهامة ومروءة ومعروف وكرم وشجاعة، وهي خلال ينبغي أن نزكّيها ونردّدها ونستزيد من ترديدها، لتكون قدوة لابنائنا وناشئتنا:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه      **    لا يذهب العرف بين الله والنّاس.
جريدة عكاظ العدد ١١٧٩٣
السنة الاربعون تاريخ  16/8/1419 هـ   الموافق 5/12/1998م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق