بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 4 أغسطس 1997

وأحلى الحديث ما كان لحناً(مقال)


تجنّى بعض المؤرخين على الحجاج بن يوسف الثقفي، فقالوا عنه :قتول غشوم قتّال عسوف، والجاحظ يعده من الذين لا يتناهون عن منكر فعلوه <١> ، والسيوطي يقول :  (( لا رحمه الله ولا عفا عنه )) 2
، والبلوي يذكر أن العلماء اتفقوا على تفسيقه واختلفوا في تكفيره<٣>، وابن خلّكان يقول : ((كان له في القتل وسفك الدماء والعقوبات غرائب لم يسمع بمثلها))<٤>، حتى الشيخ القرضاوي - عفا الله عنه - اعتبره طاغية <٥>...
ولست هنا في مجال الإنتصاف له ...
لكني أروي ما أورده ابن عساكر أن رجلاً تناول الحجاج وعابه فقال له الحكم بن هشام الثقفي : (( ابزق علي القمر)) .
كان الحجاج صاحب طاعة في منشطه ومكرهه، لا يُسوّغ لنفسه أن يناقش الخليفة أحسن أم أساء، نصح الحسن البصري فقال له : ( ياحسن إياك والسلطان أن تذكره إلا بخير فإنه ظل الله في أرضه، من نصحه اهتدى، ومن غشّه اعتدى ) <٦>.
وحسب الحجاج أنه كان واحداً من بُناة الدولة الأموية، حافظ على وحدتها السياسية، وحارب الخارجين عليها، وأسهم في صنع تاريخها وأمجادها ، والحجاج قبل هذا وذاك قارىء قرآن يتبصّره ويتدبّره ويتمثّل به ويثيب عليه، دعاه حرصه على النّص القرآني إلى إثبات الشّكل والإعجام على حروفه، وبهذا وضع لنا نحن ضوابط الكتابة العربية، وهو الذي عرّب ديوان الخراج في ولايته، وتبعته جميع الأمصار الإسلامية...
وكان غيوراً على اللغة العربية، يعيب من يلحن عنده، حتى زوجته هند بنت أسماء بن خارجة الفرازي، عاب عليها لحنها عندما لحنت. فاحتجّت بقول أخيها مالك بن أسماء :
منطقٍ صائب وتلحن أحياناً   **   وأحـلَى الحديثِ ما كان لحنا .
فقال : لها إن أخاك لم يرد ما تقولين ولكنه عنَى أنها امرأة فطنة لا تُصرّح بمرادها ولكنها تلحن به تستّراً وتوريةً وحياءً - كما قال عز وجل : { ولتعرفنّهم في لحن القول }
ولم يُرد عز وجل الخطأ في القول : دلّل الحجاج على فهمه للقرآن ومعرفته للشعر وضروب الكلام...
وكم من مرّة وقف عند آية قرآنية ذكّره بها أسير جيء به عنده لاستنطاقه وقتله، فيعفوَ عنه وعمّن معه، بل أنه عفا عن أسلم بن عبيد البكري، المطلوب قتله بأمر عبدالملك بن مروان، فلما لجأ، إليه قالت ابنته بضعة أبيات منها :
أحجاج كم تقتل به إن قتلهْ   **    ثماناً وعشراً واثنتين وأربعا
أحجاج إما أن تجود بنعمة   **    علينا وإما أن تقتّلنا معا
فبكى الحجاج وقال والله لا أعْنتُ عليكم ولا زدتكنّ ضَعفا، فعفا عنه وأجزل له العطية، وكتب ذلك إلى عبدالملك...
ألا يجمل بنا أن نقول { تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عمّا كانوا يعملون } <٧>
-------------------------------------------
الهامش:
<١> الجاحظ، الرسائل الكلامية، ص ٢٤٤ ، دار مكتبة الهلال.
<٢>السيوطي، تاريخ الخلفاء، ص ٢٢٠.
<٣>البلوي، الف باء، ج ٢، ص ٤٧٥.
<٤>ابن خلّكان، وفيات الأعيان، ج ١، ص ٣٤٣.
<٥> د . يوسف القرضاوي، مسرحية عالم وطاغية، مؤسسة الرسالة، ١٤٠٢.
<٦>ابن عساكر، تهذيب التاريخ دمشق، ج ٤، ص ٧٩.
<٧ >سورة البقرة، آية ١٣٤، وآية ١٤١.
- جدة -
المجلة العربية - ربيع الآخر ١٤١٨هـ


السبت، 19 يوليو 1997

يرمي الحبالة"1"عن بُعْدٍ وعن كثب (مقال)

خلق الله الانسان، وخلق فيه غرائزهِ، واودع فيه آماله وأحلامه وتطلّعاته وجعل له عقلا يهتدي به ، يتخير ويختار ، يتحسس طريقه، ويحكم عقله ، ويتحكم فيه غرائزه ، وهو ان شاء جعلها في وجاء ، (٢) وان شاء جعلته في عناء. وانسان في مسيرته بين سابق ومسبوق ، ان شاء رفع نفسه باخلاقه وسلوكه ، بتساميه ونكران ذاته ، وان شاء نزل بها بطمعه واطماعه ، وانحداره وانكبابه، يدور مع المنفعة أنى دارت به، ويسير مع مصلحته الذاتية أنى سارت به ، حتى لو هوت به وتهاوت ، قاتل الله الفلوس كم شوهت من نفوس. ولقد عجبت -ولا عجب- من شخص بريش (٣) سهامه ، ويشحذ شفرته ، ويطيل نصله ، يرقب ويترقب ، يتخذ من المنافع مركبا ، ومن مصلحته الذاتية دافعا ، يرسم عن بعد ، ويخطط من بعيد ويحسب - جهلا. انه عمّى(٤) دربه، وستر غرضه ، متكئا على شكل وهيئة ، ولسان ذرب (٥) شنشنة تعرف من اخزم (٦) ، وابان -بزعمه- عن اخلاص ، متقمصا صفة المحبة والولاء ،، متدرعا بصفة الوفاء وهو منها في لفاء(٧) متخذا الحباء (٨) للاحباء من الاقرباء. وفاته ان من صدقت لهجته ، وضحت حجته ، وأن من تسامى سما (٩) ومن ترفع ارتفع ، وأن الحياة ليست نُجعة (١٠) يرتعيها ، ومتعة يبتغيها ، وان التقية تبين ولو بعد حين، ألا قاتل الله الطمع كم أخضع وكم أخنع... وآخر له ألف وجه ووجه ، يلقاك بوجه طلق ، ومحيا باسم ، يخدعك بمعسول الكلام ، وموالاة الصلة والاتصال ، ما دام لك موقع ولك مكان ، فان تغيرت الاحوال ولا بد ان تتغير تغير معاها، ودوام الحال من المحال، وصدق الشاعر : 
اقلب طرفي لا أرى غير صاحبٍ
يميل من النعماء حيث تميل 
وصرت ارى ان المتارك محسن
وأن خليلا لا يضر وصول 
ومن المؤلم ان ترى نماذج مثل هذه، سواء على المستوى الوطني، او المستوى الشخصي ، فالوطن في حاجة لاخلاص وولاء، اخلاص لا تشوبه منفعة وولاء لا يشوبه نفاق، وصدق في القول والعمل ، والاخوة تحتاج الى ايخاء بمعناه ومبناه وليس ذلك بكثير على أهل المروءة والشيم . اللهم انا ندعوك ان تُخلص يقيننا ، وتصفي طويتنا ، وتسوى بين الباطن منا والظاهر في الطاعة التزاما بسنة الجماعة. 
 
الهامش:
 
(١)الحبالة: المصائد اي ما يصطاد به واحدتها حبالة بالكسر وفي الحديث ، النساء حبائل الشيطان او كما قال صلى الله عليه وسلم. 
(٢) وجاء: من الوجأ وهو رض انثيا الفحل لتذهب شهوة الجماع منه وفي الحديث : يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فانه له وجاء. او كما قال صلى الله عليه وسلم.
(٣) يريش سهامه: اي يلزق عليها ريشا قال لبيد يصف السهم : 
مرُط القذاذ فليس فيه مصنعٌ 
لا الريش ينفعه ولا التعقيب.
(٤) عمّى دربه : ستره ، وجعله مجهولا، وعماية الجاهلية يعني جهالتها ، والمعامى : الارضون المجهولة ، ويقال لقيته في عماية الصبح اي قبل ان يسفر النهار بضوئه. 
(٥) لسان ذرب: حديد الطرف، فصيح اللسان .
(٦) شنشنة تعرف من اخزم مثل عربى سائر : اصله شطرة من بيت شعري وهو : 
انّ بني ضرجوني بالدم
شنشنة اعرفها من اخزم 
ويضرب هذا المثل في قرب الشبه. 
(٧) لفاء: اللفاء هو الشيء القليل .
(٨) الحباء : بكسر الحاء اي الصلة ، والعطاء وقيل العطاء بدون منة 
يقول الشاعر الفرزدق :
خالى الذي اغتصب الملوك نفوسهم
واليه كان حباء جفنة ينقل. 
(٩) سما: ارتفع وعلا ، وتسامى اي ترفع. 
(١٠) النُجعة : موقع الكلأ والعشب ، او طلب المرعى في مكانه، ويقال في الامثال من اجدب انتجع اي طلب النُجعة . يقال ان صعصعة بنت صوحان تغدى  عند معاوية رضي الل عنه فتناول من بين يدى معاوية شيئا من الطعام ، فقال يا ابن صوحان ، انتجعت من بُعد ، فاجابه من اجدب انتجع .
 
 
نشرت في جريدة عكاظ السبت ١٥ / ٣ / ١٤١٨ هـ صفحة ٢٢. 

الاثنين، 2 يونيو 1997

خليليَّ مُرّا بي على امّ جُندبٍ (مقال )


اتعرفون من هي ام جندب؟ حدثوا ان امرأ القيس وعلقمة الفحل ، تنازعا الشعر فقال علقمة لصاحبه، قد حكمت بيني وبينك امرأتك ((ام جندب)) وبدأت المساجلة الشعرية بينهما، قال امرؤ القيس:

خليلي مرا بي على ام جندب
لتقضي حاجات القلب المعذب

وهكذا بدأت المسابقة، وانتهت بحكمها لعلقمة بالغلبة، هذان الشاعران من فحول الشعراء، يرتضيان المرأة حكومة، وما كان الا لوثقهما في حسن تذوقها، وحنكة رأيها ، وبعد نظرها في مجال النقد الأدبي.. الفتاة العربية نُشَّئت بين ام تحنو واب يرعى ويحدب، فلا معدى ان تبتغي عشيرا كريما، فهي قد درجت في كنف يرعاها، وام تؤدبها وتهذبها وتعلمها وتعدها لبيت تسوسه ،واسرة تنشئها، وزوج تسكن إليه، ومن الجور أن يضيع ذلك عند مضيع لا يرقب فيها إلاً ولا ذمة، واذكر فيما اذكر أن صعصعة بن معاوية جاء يخطب ابنة عامر الضراب العدواني فقال: يا صعصعة إنك اتيتني تبتغي مني كبدي، فارحم قبلك او رددتك، بهذا القول صارحه، فابنته عمرة هي كبده التي تمشي على الأرض، أيتركها لمفرط يستحل منها ما يستحل فان غلبته حماقته صفع وجهها ولعن اباها.
والفتاة عندما تبتغي عشيراً كريماً، فانما لمعقد الرأي من حياتها، فالمرأة التي تُسلب نفسها ورأيها، لا تنكشف عن ام جديرة بسياسة اسرة، وتنشئة اطفال، من اجل ذلك أبت الخنساء بنت عمرو بن الشريد ان تساق إلى دريد بن الصمة، وهو سيد قومه وشاعرهم، لا لشيء إلا لتفاوت السن، فدريد قد دلف إلى الستين وهي في مقتبل العمر، وقالت ما كنت لأدع بني عمي وهم مثل عوالي الرماح واتزوج شيخاً فقال دريد:

وقاك الله يا ابنة آل عمرو
من الفتيان أشباهي ونفسي
وقالت إنني شيخ كبير
      وما نبأتها اني ابن أمس
فلا تلدي ولا ينكحك مثلي
      إذا ما ليلة طرقت بنحس
تريد شَرنْبثَ القدمين شثناً
      يباشر بالعشيّة كل كرس

فأجابته الخنساء:

معاذ الله ينكحني حَبَرْكي
يقال ابوه من جُشم بن بكر
ولو اصبحت في جُشم هديّاً
اذا اصبحت في دنس وفقر

هذه هي المرأة العربية، زهرة طاب غرسها، وصلح غراسها، نُشِّئَتْ على الفضيلة، وارتضعت الكرامة، حبت في عز ورفعة رأس، يصونها حياؤها، وتقيها عفتها، تبعد عن مزالق الرذيلة، وتبعد عن مهاوي السقوط، وترتفع بأدبها وتتسامى بأخلاقها... وهي في المواقف العصيبة تبرز بعقلها وعقليتها.. يحدثنا من يحدث قبيلة كنانة توقعت غارة من اعدائها، فخرجت احدى كرائم الحي، وجلست مع اترابها، وافاضوا في الحديث عن الغارة المتوقعة، قالت لاينبغي ان ننتظر غارة تفجؤنا وتفجئنا، فارسلت وليدة لها ، وقالت ادع لي فلاناً، فذهبت الوليدةواستدعته، فلما جاء اعلمته بما تتوقع، وسألته كيف صنيعك ان زوجتك نفسي؟ قال : سأفعل وافعل، قم لست وذاك، ثم دعت رجلاً آخر فكان كصاحبه فصرفته،حتى دعت ربيعة بن مكدم، فقال لها : إن من أعجز العجز أن يصف الرجل نفسه، ولكني ان لقيت اعذرت، وحسب المرء غناء ان يعذر، قالت : قد زوجتك نفسي، فاحضر غدا مجلس الحي ليعلموا بذلك، فلما كان الغد تزوجها ، ويوم الغارة دافع الغير ودفع المعتدين.. هذه امرأة تملك نفسها وتملك رأيها، تُحسن الاختيار ، ولا تسيء في التخيّر ، وتمهر ذلك بالدفاع عن قبيلتها ، بمثل هذه وامثالها نشيد ، وبمثلها نتغنى.
 ان من ضلال الرأي ان نأخذ المرأة الغربية مثالاً، وان نتخذها نبراساً، او نقتبسها قبساً، تلك امرأة دخلت كل معترك، قارعت الرجال في كل ميدان، وزاحمتهم في كل محفل، على أني لا اغمطها حقها فلها من رجاحة العقل مالا اسلبه منها، وان انكرت عليها السهولة فيما يُمنع، ودون ذلك تُقرع انوف، وتسيح دماء،،
دعونا نمتح من فضائل نسائنا، من عقلها الراجح، وفكرها النير، ورأيها الرشيد، ونذكر بالإجلال خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وموقفها يوم جاء النذير للنبي صلى الله عليه وسلم ريع محمد عليه افضل الصلاة والتسليم، وهو صفوة الخلق وسيد الرسل، واشجع من مشت به قدمان، فلم يكن الا خديجة رضي الله عنها، تسكنه وتهدىء من روعه وتقول. : كلا والله لا يخزيك الله ابدا، إنك تحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتعين على نوائب الدهر ، فسكن ما به صلى الله عليه وسلم من روع وهدأت نفسه هذه هي المرأة، الحديث عنها يملأ القلوب روعة، ويملأ النفوس إكبارا، ويزيد من شعورنا نحو المرأة التي تملك الرأي فتفضي في سماحته بصائب القول ، وصالح التدبير، يُقال ان الحارث بن عوف المري، قال يوما في ناديه معتزا مفتخرا، أترونني اخطب الى احد فيردني ؟ قيل له نعم . قال: من ذاك ؟ قالوا : اوس بن حارثة الطائي، فخرج الحارث يبغي أوسا، ًوخرج معه خارجة بن سنان ، فلما وصلا اليه، رحب بهما أوس ، فقال له الحارث : جئتك يا أوس خاطبا، فأجابه: لست هناك، فلوى الحارث عنان دابته وانصرف غاضباً، ودخل أوس على زوجته مغضبا، قالت: من الفارس الذي وقف عليك فلم تطل معه الحديث؟ قال: ذاك سيد العرب الحارث بن عوف، قالت : فما لك لم تستنزله؟ قال: انه استحمق، قالت : فكيف ؟ قال جاءني خاطباً، قالت : الا تبتغي لبناتك ازواجا أكفاء؟ قال : بلى ، قالت : فإن لم تزوج سيد العرب فمن تزوج؟ تدارك ما كان منك والحق بالرجل ورده، فلحق به وقال: ارجع يا حارث ولك عندي ما تحب، ورجع الحارث وزوجه أوس ابنته بهية، فلما اراد أن يفضي اليها، قالت مَهْ!! أفي ديار قومي هذه والله سُبّة،فلما حملها ، وبلغ بها ديار قومه، وكانت الحرب بين عبس وذبيان قد استعرت ، واشتد أزيمها، وعصفت بها هوجاء الرياح، وجاءها الحارث بعد أن اصلح من نفسه ، ليجلس اليها ، قالت : والله لقد ذكرت لي ان لك رأيا وانك مسود في قومك ، ولا اراك إلا تبتغي شهوة، قال : وكيف ؟ قالت : اتفرغ للنساء والقوم في قراع ، والناس يصطلون بنار حرب ضروس ، اخرج الى قومك فاصلح بينهم ، وتحمل الديات، فخرج الحارث، واتى صاحبه خارجة وقص عليه حديث امرأته قال خارجة، والله إني لأرى عقلا، فخرج الرجلان الى قومهما وتحملا ديات القتلى ، واحتملا حمائل القوم.
هذا ما بلغته المرأة من عقل راجح وفكر مستنير، وحكمة سديدة، ورأي رشيد.. والمرأة في الجاهلية كانت تُسبى ، وتعيش مع من سباها دهرا، وتنجب له اولادا، إلا انها ترضى بهوان نفسها في قبيلة من سباها ، قيل ان عروة بن الورد سبى امرأة ، وعاشت معه، وانجبت له الابناء، وما زالت به حتى سار بها الى يثرب، وقالت لاهلها اخدعوه عني ، فجلسوا اليه يشربون معه، فلما تمكن منه الشراب، قالوا : انا لا نرضى ان تكون بنيتنا سبية، فأعدها الينا ونزوجك منها، قال سافعل فلما كان من غد، اتوه يستنجزونه وعده ، قال لم اعد، قالوا وعدت واقاموا البينة، قال فان اختارتكم فذلك لها، وان اختارتني فما لكم عليها من سبيل، قالوا رضينا، فجاءوا اليها ، فاختارت اهلها، ثم اقبلت على عروة وقالت : ياعروة والله ما اعلم امرأة من العرب القت سترها على بعل خير منك، واغض طرفا، واقل فحشا، واجود يدا، واحمى لحقيقة، وما مر على يوم منذ كنت عندك الا والموت فيه احب الي من الحياة بين قومك، لاني لم اشأ ان اسمع امرأة من قومك تقول قالت امة عروة كذا ، قالت امة عروة كذا، والله لا انظر في وجه غطفانية ابدا، فارجع راشدا الى ولدك ، واحسن اليهم، فانصرف عنها وهو يقول :

ارقت وصبحتي بمضيق عمق
لبرق من تهامة مستطير
سقى سلمى وأين ديار سلمى
اذا كانت مجاورة السدير

ولعلي اذكركم ان عبدالملك بن مروان الخليفة الاموي ، تمنى ان يكون عروة بن الورد من ولده، وذلك لما هو مأثور عنه من فضائل ومكرومات، هي حصيلة العربي ورأس ماله، ومع هذا فان سلمى زوجته كرهت مصاحبته، لا لسوء فيه لم تحمد عشرته ، ولكن انفة ان يقال لها امة ، وهي عربية صريحة النسب ، فكرامتها تأبى عليها ان تكون سبية وتدعى أمة لفلان، كائن من كان فلان هذا ، بامثال هذه المرأة يعتز الانسان ويعتزي، وعجيب ان نسمع ان العربي لا يحترم المرأة ولا يقدرها ، ففيما رأينا آنفا شاهد وشواهد تدحض هذه المقولة وتنفيها ، وحتى في عصرنا الحاضر ، أرأيت الرجل اذا حزبه امر ، او اشتدت به ضائقة اعتزى وقال: انا اخو فلانه او انا ابو فلانه، وما كان هذا الا لانه يحترم المرأة ويقدرها. المرأة التي تستحق ان تصان ولا تهان ، وان تكون فاعلة ، لا قعيدة بيت اكبر همها نظافة الدار وغسل الازار.

جريدة عكاظ السبت ١٠/٦/١٤١٨هجرية 

السبت، 16 أكتوبر 1993

الحطيئة في واحدة من أجمل قصائد الشعر العربي/ مقال

هذه القصيدة للشاعر (( الحطيئة)) لعلها من أجمل قصائده .. بل من أجمل قصائد الشعر العربي التي تبلور أخلاقيات الرجل العربي ، وهي تتحدث عن قصة إعرابي فقيرمعدم، (( طاوى ثلاثٍ، عاصبِ البطن، مرملٍ)) يعيش في بادية غير مطروقة، أورثته وحْشة، وخلقت في نفسه جفْوة، وجعلته يأنس بالبؤس ويعدّه -لشراسته- من النعم.
وللأعرابي زوجة عجوز وثلاثة أبناء كأنهم أشباح، حُفاة عُراة، لم يطْعموا خبز الملّة، ولم يتذوقوا طعم القمح منذ خلقوا.
وطاوى ثلاثٍ عاصبِ البطنِ مرملٍ   **   ببيداء لم يعرف بها ساكنّ رسما
أخي جفْوة فيه من الإنس وحشة        **   يرى البؤس فيها من شراسته نُعْمَى
وأفرد في شعب عجوزاً وراءها        **  ثلاثة أشباحِ تخالهُم بَهْما
حُفاةٌ عُراةٌ ما اغتذوا خبز مَلّة           **  ولا عَرَفوا للبُرَ مذ خُلقوا طَعْما
عمد الشاعر ((الحطيئة)) إلى هذه الصّور الُمدْقعة، ليجسّد الفقر المريع الذي يعيشه هذا الإعرابي وعائلته ، ويخرج لنا مسرحية أخاذة، يستهلّها بوصف حالة هذه العائلة الفقيرة، المكوّنة من خمسة أشخاص ،المتفرّدة في بادية مُنْحازة غير مطروقة ، هذه الصّور لوضع العائلة والظّروف المحيطة من فقرٍ وجوعٍ واقتارٍ وإعدامٍ، عمد الشاعر إلى شحن ألفاظها شحناً شديداً، وتخيّر ألفاظها المؤثّرة ، ليكثف الظلال، ويُعْطي المزيد من الألوان، ويسلّط عليها سيلاً من المؤثّرات ((طاوى ثلاثٍ، عاصبِ البطنِ مرمل، ببيداء لم يُعْرف بها ساكن رسما، أخي جفوة، فيه من الإنس وحشة، يرى البؤس فيها نُعْمَى، أشباحٌ تخالهم بَهْما، حُفاة عُراة ، لم يطعموا خبز الملة، وماعرفوا للبر مذ خُلقوا طعماً)) هذه الألفاظ القويّة، تُجسّد حالة الفقر والوَحْشة والجَفْوة والبؤس، وتدفع المتلقِّي إلى تصوّر الإمْلاق الذي تعيشة هذه الأسرة، وتجعله يتهيّأ للإنزعاج من الضّيف الذي سيطرقهم ليلاً.. وبعد هذه المقدّمة والتهيئة، ينقلنا الشاعر إلى مشهد درامي ليزيد من جرعة التأثير النفسي، فبالرغم من هذه الظروف القاسية غير المواتية، التي جعلت الأعرابي يطوي ثلاثة أيام دون طعام، ويعصب بطنه من الجوع، يبرز وسط الظلام شبحٌ، يرتاع ُله الأعرابي، ويستبين الشبحُ عن ضيفٍ يطلبُ القِـرَى.. أي قِـرى يطلب!! وأي ضيافة ينشد؟؟ طارق الليل أورث هماً.. وأوجد غماً، من أين يضيفه؟ وكيف يُطعمه؟ أي مصيبة حلّت ، وأي نازلة نزلت ؟، فيلجأ الأعرابي إلى ربه متوسّلاً مبتهلاً ألاَّ يحرم ضيفه ( تالليلة اللحما ).
رأى شبحاً وسط الظلام فراعه   **   فلما بدا ضيفاً تشمّر واهتماً
فقال هيا ربّاه ضيفٌ ولا قِـرَى   **   بحقِّـك لا تحرمه تالليلة اللحما
ويزيد الشاعر من حبكة الدراما، بموقف التّضحية من الإبن الذي تطوّع مقترحاً على أبيه أن يذبحه ويُيسِّر القِـرَى لضيفه، ولا يعتذرْ بالعُدْم والفقر والفاقة، فلعلّ الضّيف يحسب أن لهم مالاً فيوسعهم ذماً.
وقال ابنه لما رآه بحيرةٍ             **     أيا أبت اذبحني ويسّر له طُعْما
ولا تعتذر بالعُدْمِ علّ الذي طرا    **     يظنُّ لنا مالاً فيوسعنا ذما
وتراود الأعرابي فكرة ذبح ابنه،  ويتروّى قليلاً إزاءها، ثم يحجم، وتعاوده الفكرة، ويطردها، ويعيش الأعرابي في هذا الجو النفسي البائس لبرهة يهمُّ ويحجم، ويتقدّم ويتردّد،
فروَّى قليلاً ثم أحجم بُرهة      **     وإن هو لم يذبح فتاه فقد همّا
وبين عزمه وتردّده، وبين إقدامه وإحجامه، يأتي الفرج بقطيعٍ من الحُمُرِ الوحشية، منتظمة خلف مِسْحَلها ، تسير نحو الماء لتروّي عطشها، فانساب نحوها، وأمهلها حتى ارتوتْ ثم أرسل من قوسه سهماً فأصاب إحداها وتأتي مراكبُ الفرح، وتأتي البُـشرَى، ويعُـمُّ السرور الأرجاء. عندما رأوا  أباهم يجر صيده . وقضوا حق الضيف كرماً وجودآ..
وبات والدهم من البشر أباً للضيف والأم من فرحتها أماً.
فيا بِـشْره إذ جرها نحو قومه        **     ويا بِـشْرهم لمّا رأوا كَـلْـمَـهـا يَـدْمِى
فباتوا كراماً قد قضوا حقّ ضيْفهم  **     فلم يغرموا غُرماً وقد غنموا غُنماً
وبات أبوهم من بشاشته أباً          **     لضيفهم والأم من بِـشْرها أما
يقدّم الشاعر لنا عالماً مُدْقِعاً من الفقر والفاقة والتوحّش والتفرّد، مستخدماً كما أسلفت تراكيب وأدوات مختاره، طرقات متصاعدة ليشدّ الذهن. واختار الشاعر من البحور البحر الطويل. ((وهو بحر جاد، واضح النغم، تؤدَّى عليه المواضيع الجاده، وأعاريضه طويله تتناسب مع السرد القصصي)).
والقافية حرف الميم. وهو حرف شفوي، حرص الشاعر على تحريك القافية ومدّها ليطلقها ويجعل لها جَـرْساً. وكان موفَّـقـاً بين الصورة والعرض المسرحي، وكانت الحبكة مُؤثّـرة، وموضوع القصيدة موضوع تراثي، فالكرم عادةٌ من عادات العرب، لايمكن التّخلّي عنه مهما كانت الظروف، وإلاّ كان سِبَّة يخلدها الدهر..
((وآنف من أخي لأبي وامي     **    إذا لم أجده من الكرام))
ومن أقبح الهجاء قول القائل :  ((هؤلاء قومٌ لا ينتجع معروفهم))..
والحطيئة تعرّض لمواقف عدّة من البخل، فتحوّل إلى آخرين، وهجا من قبلهم، في قصة معروفة، تسبّـبت في سجنه من قبل الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حتى استعطفه بقوله:
ماذا تقول لأفراخٍ بذي مرخٍ     **    زُغْـبُ الحواصلِ لا ماءٌ ولا شجرُ
فأطلقه -رضي الله عنه-، بعد أن استوهب منه أعراض المسلمين.
الرياض
رمضان ١٤١٤هـ المجلة العربية.

السبت، 29 أغسطس 1992

قفا ودّعا نجد(مقال)


لحظات الوداع صعبة و قاسية، وأصعب ما فيها أن يخون الرجل تماسكه، فيجهش حزناًً، أو يبكي تشوقاً، أو تغرورق عيناه من فرط الحنين، تلك هي لحظات عشتها وعايشتها، عندما اقترب موعد رحيلي ، وتثاقلت خطاي وكأني انتزعها اتزاعاً من (نجد) التي أحببت، من (نجد) التي عشقت. من (نجد) التي عشت فيها فترة النضج الزمني، وتغنيّت مع من تغنى بشيحها وقيصومها وعرارها
تمتّع من شيم عرار نجدٍ
فما بعد العشيّة من عرار
ألا يا حبّذا نفحات نجد
وريا روضه بعد القطار
ونجدٌ لفظٌ أهاج الحنين، وإنغرس في الوجدان، وتغلغل في الحنايا... وعندما ركبت الطائرة مُتْهِماً، تذكرت يحيى بن طالب الحنفي، أحدُ بني ذهل بن الدول ابن حنيفه. وهو رجلٌ كريم سخيٌ متلاف، يذبحالخراف ليُقري الأضياف كانت له ضيعة وأملاك باليمامة (( البرَة العليا )) فأصاب الناس جدبٌ فجلا أهل البادية ونزلوا قرقرى(١)، ففرّق فيهم (( يحيى بن طالب )) الغلاَت. فباع عامل السلطان املاكه. وركبه الدّيْن فهرب إلى خرسان، وشيّعه حتى ركب الزورق، فأغرورقت عيناه بالدموع وقال :
أحقاً عباد الله أن لست ناظراً
إلى قرقرى يوماً وأعلامها الغبر
كأن فؤادي كلما مر راكب
جناح غراب نهضاً إلى وكر
إذا ارتحلت نحو اليمامة رفقةٌ
دعاك الهوى واهتاج قلبك للذكر
تغربّت عنها كارهاً وهجرتها
وكان فراقيها أمرَّ من الصبر
لعل الذي يقضي الأمور بعلمه
سيصرفني يوماً إليها على قدر
تذكرت يحيى بن طالب الحنفي، وأغرورقت عيناي بالدموع مثله، وهتفت بقوله : (( وكان فراقيها أمر من الصبر )) طعمتُ طعمه، وتذوَقتًُ مذاقه، مع غصَة في الحلق ومرارة في الحلقوم.
ومن العجيب أن الطائرة عندما صعَدت، حلّقت فوق قرقرى كأنما عرفت ما أكنه من شوق، وما يعتمل في نفسي من حنين... فتمثّلت بقول بن طالب :
ألاَ هَلْ إلى شمِّ الخزامى ونظرة
إلى قرقرى قبل الممات سبيل
فأشرب من ماء الحجيلاء(١) شِرْبة
يداوى بها قبل الممات غليل

 
- جدة -
المجلة العربية- ربيع الأول ١٤١٣هـ.

الأحد، 22 مارس 1992

أحدّث عنك النفس أن لست راجعاً/مقال

أحدّث عنك النفس أن لست راجعاً
إليك فحزني في الفؤاد دخيل
أريد هبوطاً نحوكم فيردّني
إذا رمته دَيْنٌ عليّ طويل
اعتلجت لواعج الحنين، وتهيّجت عوامل الشوق، فداريت دمعة أوشكت أن تذرف، ونشيجاً كاد يعلو..
وتذكرت هارون الرشيد عندما انشدت بين يديه قصيدة يحيى بن طالب، وذُكرت له قصته فقال : يُقضى دينه، وتُعاد له ضيعته وأملاكه، فطُلب فإذا هو قد مات.
كم هو موجع على الإنسان شعور الحنين الممض، والشوق الذي يرمض ويمرض، الحنين إلى موطنه والشوق إلى دياره، فلا يستطيع أوبَه، ولا يقدر سلواً، فيعيش بين هم الغربة ولوعة الحنين.
((حننت إلى (نجد) ونفسك باعدت
مزارك من (نجدٍ) وشعباكما معاً
كأنك بدعاً لم تر البين قبلها
ولم تك بالألآف قبل مفجّعا
قفا ودعا نجداً ومن حل بالحمى
وقلَّ لنجدٍ عندنا أن تودّعا
بنفسي تلكُ الأرض ما أطيب الرُّبا
وما أحسن المصطاف والمتربّعا))
نعم بنفسي تلك الأرض وما أطيبها أرضاً وما أحسنها مصطافاً ومتربعاً.

الهوامش
١-قرقرى: أرض باليمامة، متاخمة لوادي الحيسيه، وهي الأرض التي بين ضرما والبرة.
٢-الحجيلاء: تقع في الجهة الجنوبية من البرة. 

ربيع الأول ١٤١٣  المجلة العربية

الأحد، 10 نوفمبر 1991

قراءة في قصيدة لسمو الامير عبدالله الفيصل (مقال)

<><><><> <><> <><> <><>


اختار لفظا يوائم المعنى
والا انت ظل ما لنا فيه مقيال
قبيل سنتين تقريبا-إن اسعفتني الذاكرة-قرات في مجاة اليقظة، قصيدة للشاعر الكبير
الامير عبدالله الفيصل . اعجبتني القصيدة، فسجلتها في دفتري، وجعلتها ضمن مختاراتي،
والقصيدة عذبة الجرس، حسنة التناول، خالية من التكلف. ورغم ان موضوع القصيدة
هو العتاب. الاا ان الشاعر- كدأبه-لم يتورط في الفاظ تخرج بالعتاب الى السباب، بل كظم
غيظه، ووارى غضبه، وانصف في الوصف، بأن الحبيب ظل، وبحر زلال، وحسن الاقبال،
والقصيدة تقول:
انا بليت بحبكم من هبالي
والا انت ظل ما لنا فيه مقيال
خيرك لغيري والشقا والعنال
والمشكل اني عارف كل الاحوال
ارمى بروحى في بحرك الزلالى
وتنسفنى امواجك على يابس الجال
أسأل فراشى كيف اقضى الليالى
بالليل لي حال ومعكم لي احوال
ومن خوفى العذال تدرى بحالى
ويكثر على من العذل قيل والقال
ابعدت خلانى وجيتك لحالى
وفرشت لك قلبى مقر ومدهال
و يوم ابعدنى احبالهم عن حبالى
ودريت انك عندنا غالى الحال
ابديت عقب الحب صرف الجفالى
وخليتنى محتار فى اشهب اللال
وطلبت رب عالم ما جرى لى
ماحط دون الخلق حاجب ومرسال
ومنحنى السلوان عالى الجلالى
ورد الحياة لسالم ما طلب مال
وابعد خيالك خالقى عن خيالى
وقصر على الليل من عقب ما طال
واليوم ترسل لى وتبدى الوفا لى
وتبدى لى اعذار قصيرات واطوال
تبى تجدد ما انقطع من وصالى
ترضى غرورك بس يا حسن الاقبال
ماعاد تخدعنى عقب ما بدا لى
وان عدت فيما عفت ما نيب رجال
وكما قلت اثرت فى القصيدة، قصة واسلوبا وموقفا، ورغم اعجابي بها، الا انى تهيبت ان اكتب عنها ، وكم مرة راودتنى فكرة الدخول في عالمها ، الا انى ارتد حسيرا ، ويبدو ان معاودة قراءتي للقصيدة شجعتنى فجلست اتمعنها واستجلى معانيها ، واتصور الشاعر محلقا كالقطامى ، يعيش حرا مرتفعا ، يقتنص صيده ، ولكنه في يوم ، غرته رفت جناح ، فانقض فإذا الشبكة مهيأة ، اقتنصته واسرته ، وطرحته فى مطارحها ، ولكن دوام الحال من المحال، وكأنى به طائفا من خيال الم ثم تولى . انى اذا الخل ولى وليته ما تولى وشدنى اول ماشدنى تلك الاستهلالة الرائعة القوية الصريحة
انا بليت بحبكم من هبالى
والا انت ظل ما لنا فيه مقيال
تخيلت الشاعر الكبير واقفا مغضبا يائسا عابسا ، موجها خطابه الى شخص محبوبه، فى نبرة واضحة، ومصارحة قوية، بأنه ابتلى بحبه، لقلة دربته، وقليل خبرته، بشخصية الحبيب. كانت فاتحة القصيدة، قوية صريحة ، لم يحتج فيها الشعر الى مقدمة وحيثيات ، بل رسم موقفه، وحدد استهلاله، بدخوله مباشرة الى الموضوع، مستخدما كلمة انا بليت القوية التأثير فى موقعها. والقاريء اى قاريء عندما يقرأ ذلك، لابد وان يدركه الفضول ، ليتساءل بماذا ابتلى الشاعر ؟، وتلك تهيئة جيدة بارعة للدخول الى عالم القصيدة. والشاعر مغرم بالاستهلال ، ويبدو لى انه يعمد الى تخير ما يستهل به قصيدته -اى قصيدة كانت- وأجزم انه قرأ كثيرا عن روائع الاستهلال عند المتنبى وعند غيره، فأسرته تلك الفكرة، ولا تسعفني الذاكرة للتدليل، على ذلك سوى قصيدته.
أكاد اشك في نفسي لاني
أكاد اشك فيك وانت منى
وكفى بهذا دليلا، يوضح توفق الشاعر فى الاستهلال الجيد القوى الواضح الصريح. ورغم غضبه اى الشاعر وحنقه، الا ان شدة الغضب، لم تحجب اعترافه بأن محبوبه ظل
والا انت ظل ما لنا فيه مقيال
لقد جعل الشاعر الحبيب ظلا ظليلا واسعا ممتدا، يقى من الهاجرة وشدة القيظ، مع ما يصاحب ذلك من نسيم عليل، والمأخذ على هذا الظل الوارف، ان ليس للشاعر فيه مقيال، ثم ما الذي ارتكبه الحبيب من ذنب لا يغتفر ، جعل الشاعر يصف حبه بانه ابتلاء نتيجة هباله ولم يفصح الشاعر عن الاسباب سوى
خيرك لغيرى والشقا والعنا لى
والمشكل اني عارف كل الاحوال
ومع علمنا وادراكنا ان المحب دائما في شقاء وعناء سببه البعد والنأي والهجر والصد ، بل وبعض الشعراء يستعذب ان ينال بمساءة، طالما خطر اسمه في بال حبيبه.
لئن ساءني ان نلتنى بمسبة
لقد سرنى انى خطرت ببالكا
والخير للغير ليس فيه ضير ان كان محسوسا، ولا يدعو ذلك الى القطيعة، ولعل التفسير فيما اجمله الشاعر بقوله
(والمشكل انى عارف كل الاحوال)
وأحسب ان التجربة كشفت عن عيوب، وأبانت من غيوب والمحب ينظر الى حبيبه نظرة مثالية، قد تبعد عن الواقع المادى كثيرا، وربما يكون الحبيب كثر دغله، وساءت طويته ، فعبر الشاعر عن استيائه، واختار موقفه. ويتكرر اعتراف الشاعر بميزة ثانية للحبيب بحره زلال
(أرمى بروحى فى بحرك الزلالى
وتنسفنى امواجك على يابس الجال)
ولا شك ان الشاعر وفق فى تصوير قوة الموج وشدته باتيانه بكلمة تنسفنى والتي جاءت فى موقعها ومكانها بديعة الاختيار ، اعطت لكناية تصورا محسوسا .. ولا عجب ولا غرابة من قدرة الشاعر على حسن اختياراللفظ ومواءمته للمعنى، فتلك ميزته، فهو شاعر قطف القول لما نور، وايقظ الوجدان باعذب بيان ، وهو كغيرة من العشاق يطول ليله، يتقلب فى فراشه، لايهنأ له بال، ولا يطيب له قرار
(أسأل فراشى كيف اقضى الليالى
بالليل لى حال ومعكم لى احوال)
ومع ان الشاعر توقى خشيته العذال ، ودفعا للقيل والقال، ابعد خلانه، وجافى قرابته، وفرش قلبه مقرا محلا، وعندما ابتعدت حبال الشاعر عن ربعه وخلانه، وعلم الحبيب انه غال وأثير، اساء المعاملة، ولم يحسن المقابلة، وابدى الجفاء، واظهر الجفوة، وتنكر للمودة، وبدل بالاقبال ازورارا وبرد السلام اختصارا.
ومن خوفى العذال تدرى بحالى
ويكثر على من العذل قيل والقال
ابعدت خلانى وجيتك لحالى
وفرشت لك قلبى مقرا ومدهال
ويوم ابعدن حبالهم عن حبالي
ودريت انك عندنا غالى الحال
أبديت عقب الحب صرف الجفالى
وخليتنى محتار في اشهب اللالى
ومن خلال هذه النفسية المتقلبة، التي ليس في قربها بشاشة نجاح ،أو انشوة ارتياح ،توجه الشاعر لخالقه، ورفع طرفه، وشكى ظرفه، فأكرمه الله بالسلوان، ورد اليه حياته.
وطلبت رب عالم ما جرى لى
ما حط دون الخلق حاجب ومرسال
ومنحنى السلوان عالى الجلالى
ورد الحياة لسالم ما طلب مال
وابعد خيالك خالقى عن خيالى
وقصر على الليل عقب ما طال
وكأني بالشاعر وقد وجد فى السلوان هناءة عيش، يردد قول الشاعر :
اذا ما عتبت ولم تعتب
وهنت عليك فلم تعن بى
سلوت فلو كنت ماء الحيا
ة لعفت الورود ولم اشرب
ومع هذا فان الشاعر لم يخل من الاتصاف بحسن الانصاف، فيصف الحبيب بأنه حسن الاقبال ،فى معرض العرض عن تجديد الوصال .
تبي تجدد ما انقطع من وصالى
ترضى غرورك بس يا حسن الاقبال
ولكن الحبيب ابدى (شقاشقه وغطا مخارقه) ، اظهر ميلا وقولا جميلا ،وارسل للشاعر يمنيه بالوفاء ،بدل الجفاء ،وبالحظوة بدل الجفوة، ولكن الشاعر ادرك المكايد، وعرف المراصد ،فطوى الرشاء، واعد الرحل ،وتمثل بقول الشاعر :
ولن يزيح هموم النفس اذا حضرت
حاجات مثلك الا الرحل والجمل
فالعوائق قد بثت يمنة ويسرة ،جعلت المنى حسرة، ولم يعد ينخدع بقول جميل، وخد اسيل، وآلى على نفسه ألية ،الا يرتضي الدنية .
ما عاد تخدعني عقب ما بدا لي
وان عدت في ما عفت مانيب رجال
وأسدل الشاعر الستار على قصة حب، أورقت واظلت ،كانت بدايتها هناءة عيش، وسعادة قلبين، وتعلق روحين ،ولكن نبتة الحب لم تجد تربة صالحة ترعاها وتراعيها ،وتعهدها وتتعهدها، فذوى الحب وتعطلت دواعيه، وانكفأت اسبابه، فكانت اللحظة المأساوية ،وانتهت القصيدة ،بنهاية قوية عنيفة معبرة، ونسطيع أن نقول ان الشاعر وفق فى الاستهلال ووفق في الختام، وكانت قصيدته جميله رائعة، تنساب في رقة الى النفس، فتتفاعل معها قصة وبناء واسلوبا وموقفا.

نشرت في جريدة عكاظ  سوق العصر السنة الثالثة والثلاثون  العدد ٩٢٤١الاحد جمادى الاولى ١٤١٢هـ