بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 29 أغسطس 1992

قفا ودّعا نجد(مقال)


لحظات الوداع صعبة و قاسية، وأصعب ما فيها أن يخون الرجل تماسكه، فيجهش حزناًً، أو يبكي تشوقاً، أو تغرورق عيناه من فرط الحنين، تلك هي لحظات عشتها وعايشتها، عندما اقترب موعد رحيلي ، وتثاقلت خطاي وكأني انتزعها اتزاعاً من (نجد) التي أحببت، من (نجد) التي عشقت. من (نجد) التي عشت فيها فترة النضج الزمني، وتغنيّت مع من تغنى بشيحها وقيصومها وعرارها
تمتّع من شيم عرار نجدٍ
فما بعد العشيّة من عرار
ألا يا حبّذا نفحات نجد
وريا روضه بعد القطار
ونجدٌ لفظٌ أهاج الحنين، وإنغرس في الوجدان، وتغلغل في الحنايا... وعندما ركبت الطائرة مُتْهِماً، تذكرت يحيى بن طالب الحنفي، أحدُ بني ذهل بن الدول ابن حنيفه. وهو رجلٌ كريم سخيٌ متلاف، يذبحالخراف ليُقري الأضياف كانت له ضيعة وأملاك باليمامة (( البرَة العليا )) فأصاب الناس جدبٌ فجلا أهل البادية ونزلوا قرقرى(١)، ففرّق فيهم (( يحيى بن طالب )) الغلاَت. فباع عامل السلطان املاكه. وركبه الدّيْن فهرب إلى خرسان، وشيّعه حتى ركب الزورق، فأغرورقت عيناه بالدموع وقال :
أحقاً عباد الله أن لست ناظراً
إلى قرقرى يوماً وأعلامها الغبر
كأن فؤادي كلما مر راكب
جناح غراب نهضاً إلى وكر
إذا ارتحلت نحو اليمامة رفقةٌ
دعاك الهوى واهتاج قلبك للذكر
تغربّت عنها كارهاً وهجرتها
وكان فراقيها أمرَّ من الصبر
لعل الذي يقضي الأمور بعلمه
سيصرفني يوماً إليها على قدر
تذكرت يحيى بن طالب الحنفي، وأغرورقت عيناي بالدموع مثله، وهتفت بقوله : (( وكان فراقيها أمر من الصبر )) طعمتُ طعمه، وتذوَقتًُ مذاقه، مع غصَة في الحلق ومرارة في الحلقوم.
ومن العجيب أن الطائرة عندما صعَدت، حلّقت فوق قرقرى كأنما عرفت ما أكنه من شوق، وما يعتمل في نفسي من حنين... فتمثّلت بقول بن طالب :
ألاَ هَلْ إلى شمِّ الخزامى ونظرة
إلى قرقرى قبل الممات سبيل
فأشرب من ماء الحجيلاء(١) شِرْبة
يداوى بها قبل الممات غليل

 
- جدة -
المجلة العربية- ربيع الأول ١٤١٣هـ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق